سوريا: زلزال الطبيعة أم زلزال الأسد؟

ربما شاءت الصدف وحدها، أن يصدر تقرير بحثي إحصائي يرصد تداعيات زلزال شباط/فبراير المنصرم في سوريا، وأن يتم تداول هذا التقرير بالتزامن مع زلزال مفجع جديد في المغرب هذه المرة، مع كارثة بشرية واقتصادية ثقيلة الوطأة. لكن، في كل شأن، للحالة السورية، خصوصيتها. إذ أنه يمكن لنا أن نقرأ أرقام التقرير الصادر عن المركز السوري لبحوث السياسات، قراءة باردة، تُظهر حجم التداعيات الاقتصادية المُرّة التي ولّدها الزلزال. ويمكن لنا، بالمقابل، أن ننتهج منهجاً آخر في تلك القراءة، في محاولة للإجابة على سؤال: أيهما كان أكثر كارثية في سوريا، زلزال الطبيعة، أم زلزال الأسد؟ فالأرقام الإحصائية الملفتة التي يوردها التقرير، تقدّم صورة فاقعة للفارق بين أثر “الزلزالين”.

التقرير الذي أُعد بالتعاون مع جامعة فيينا ومركز بحوث التنمية البديلة، وبمنحة من مؤسسة كارنيغي في نيويورك، قدّم استعراضاً إحصائياً رقمياً، مرعباً، للانهيار الاقتصادي في سوريا، في السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت الزلزال. وهي السنوات التي خَفَتَ فيها الجانب العسكري من النزاع في سوريا، وحظي فيها نظام الأسد، باستقرار أمني وسياسي كبير. في تلك السنوات، كان زلزال بطيء يتغول في اقتصاد البلاد، إذ انكمش الاقتصاد 20%، فيما انكمش جراء الزلزال 2.2%. وبفضل الإدارة الاقتصادية لحكومة النظام، شهدت السنوات الثلاث التي سبقت الزلزال، قفزة في درجة اعتماد البلاد على المساعدات الخارجية إلى نسبة 30% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. فيما وصل العجز التجاري إلى 70%، وبلغت المستوردات 6 أضعاف الصادرات، ووصل عجز الموازنة إلى 50% مقارنة بالناتج المحلي. والأبرز، أن مديونية سوريا تجاوزت 250% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022.

وإن أردنا أن نتابع في المقارنة بين أثر “زلزال الأسد” خلال أعوام (2020، 2021، 2022)، وبين أثر “زلزال الطبيعة” عام 2023، قد نجد في معدل البطالة مؤشراً ملفتاً، فقد تصاعدت في آخر سنتين (2021، 2022)، إلى نسبة 43%. فيما تسبب “زلزال الطبيعة” بارتفاع معدل البطالة بنسبة 1.8%. أما مؤشر التضخم فيقدّم صورة فاقعة أكثر. فما بين 2019 و2022، ارتفع الرقم القياسي العام للأسعار بأكثر من 8 أضعاف. وسجّل الرقم القياسي للأسعار تضخماً سنوياً بنسبة 113% في 2020، و110% في 2021، و85% في 2022. وبناءً على هذه الأرقام، يمكن استنتاج معدل تضخم شهري خلال السنوات الثلاث السابقة للزلزال، بنسبة 8.5% وسطياً. أي أن “زلزال الأسد” كان يتسبب بمعدل تضخم شهري (وسطي)، بنسبة 8.5%. فماذا عن التضخم الشهري الناجم عن “زلزال الطبيعة”؟ كانت نسبة ارتفاع الأسعار (بمعدل شهري)، بعيد الزلزال، كالتالي: 10% في اللاذقية، و5.6% في حماة، و2.2% في حلب، و4.2% في إدلب. والملفت هنا، أن اللاذقية التي تحتل المرتبة الثالثة من حيث حجم الأضرار جراء الزلزال بين المحافظات الأربع المنكوبة، شهدت أعلى معدل ارتفاع للأسعار. فيما شهدت إدلب، الأكثر تضرراً، معدل ارتفاع أقل بكثير. وهذا يؤشر إلى ضيق هامش المنافسة في أسواق المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، مقارنة بنظيرتها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. لكن في كل الأحوال، فإن معدل ارتفاع الأسعار الشهري، جراء الزلزال، كان يقترب للغاية من معدل ارتفاع الأسعار الشهري (الوسطي) في السنوات الثلاث السابقة للزلزال. أي من حيث الأثر المعيشي تحديداً، كان هناك “زلزال” شهري يواجهه السوريون على مدار السنوات الثلاث الأخيرة.

التقرير الذي نستند إلى أرقامه والذي حمل عنوان “آثار الزلزال في سوريا، المقاربة التنموية المفقودة في ظل النزاع”، استعرض بصورة مفصّلة استجابة سلطات الأمر الواقع، للكارثة. وبالمجمل، تميّزت حكومة النظام بفائض خاص من التمييز والتسييس والتهرب من المسؤولية ومحاولات الاستغلال، والعمل على حصر المساعدات بمؤسسات قريبة من السلطة، وتقييد المبادرات المدنية. من دون أن يلغي ذلك أن حكومتي الإنقاذ في إدلب، والمؤقتة في حلب، حاولتا بدورهما استغلال الكارثة، مع عجزٍ عن تبني استراتيجية واضحة، وضعف في التنسيق، وتحميل الأعباء للمجتمع المدني والمنظمات الدولية.

وبالإشارة إلى التمييز الذي طبع أداء النظام يوم الكارثة، يمكن تذكر تغطيته المنحازة وتضخيمه لتداعيات الزلزال في اللاذقية. فيما تشير أرقام التقرير أن إدلب حصدت النسبة الأكبر من التداعيات بفارق هائل مقارنة باللاذقية. وبالاستناد إلى مؤشر الخسائر في مخزون رأس المال المتراكم، كان نصيب إدلب 6.9%، وحلب 2.1%. بينما كان نصيب اللاذقية 6 بالألف، وحماة 3 بالألف. وبالاستناد إلى مؤشر تراجع الناتج المحلي، كان نصيب إدلب 16.2%، وحلب 4.4%. بينما كان نصيب اللاذقية 5 بالألف، وحماة 3 بالألف.

لا نعني في ما سبق مطلقاً، التقليل من التداعيات الكارثية لزلزال شباط/فبراير في سوريا. لكننا نقصد أن “زلزال الطبيعة” الذي كانت حصيلته الاقتصادية المباشرة نحو 5.85 مليار دولار أمريكي من الخسائر، كانت تداعياته أقل بكثير مقارنة بالتداعيات الاقتصادية الناجمة عن سوء إدارة النظام، في السنوات الثلاث الأخيرة التي لم يكن يعاني فيها من تهديد أمني وعسكري مباشر، وكانت الحرب في عُرفه، قد انتهت بـ “انتصاره”. فيما كان الانهيار المعيشي يسير في خط بياني صاعد، لا يتوقف. ولا يبدو أنه سيتوقف قريباً. وباختصار، كان “زلزال الطبيعة” أرحم بمرات من “زلزال الأسد”.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا