سوريا ولبنان: جغرافيا الجريمة المشتركة

كما يحدث في شبكة صيد كبيرة ممتلئة بالأسماك المذعورة والمحشورة في فخها المميت، تروح كل سمكة تنتفض بعنف مجنون محاولة عبثاً الإفلات من القدر الرهيب. على هذا النحو، يبدو الشعبان اللبناني والسوري، بما يحتويان من طوائف ومذاهب وعشائر وفقراء وأغنياء ونبلاء وحقراء وطيبين وأشرار، عالقين في الفخ الهائل والمحكم الذي وقع فيه البلَدان.

في البدء كان هناك ربيع دمشق، بعد رحيل حافظ الأسد. أمل بانطلاقة جديدة لسوريا أفضل، بإصلاح سياسي يلبي طموحات الشطر الأعظم من السوريين.

وفي البدء أيضاً كان هناك ربيع بيروت، بعد اغتيال رفيق الحريري. أمل بتوأمة التحرير مع الاستقلال والسيادة.

ومنذ اللحظات الأولى، كان الحلم “مشتركاً” هناك في دمشق وهنا في بيروت. وكان واضحاً أننا نحاول معاً طيّ تاريخ الخوف والوصاية القسرية والإساءات والشوفينية والعنصرية والانتهاكات والاستقواء أو الاستضعاف.. والأهم، أننا معاً نحاول تثبيت دولتين تليقان بكرامة الشعبين وتطلعاتهما للحرية والديموقراطية والعدالة.

كانت الجريمة الأولى في سوريا حين انقصف الربيع الأول، وعادت “جمهورية السجون” كاقتراح وحيد للسلطة. وكانت الجريمة الثانية في لبنان إشهار الحرب الأهلية وإفلات فرق الاغتيالات في الشوارع قتلاً للربيع اللبناني.

وما كاد أن يموت الحلمان، حتى أتت الصرخة العظيمة للشعب السوري، بملء قهره وعذاباته ولوعاته: “حرية”.

كانت صرخة مليونية طالعة من أعماق آلام ومذلات خمسة عقود من الديكتاتورية الوحشية. ثورة بدت لأكثرية اللبنانيين أنها تحررهم أيضاً من هذا الطغيان المشترك الذي يفتك بالبلدين. بل وكان واضحاً أن مصير الثورة السورية سيكون حاسماً في مصير لبنان.

وعلى هذا الوضوح أيضاً، كان تصميم نظاميّ الجريمة في سوريا ولبنان، في شن واحدة من أشنع الحروب على الشعب السوري، واستدعاء الظلاميين وما يماثلهم للإطباق على الثورة بالذبح والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. النظام السوري وحليفه اللبناني، كانت جريمتهما “المشتركة” والكبرى تحطيمَ العمران السوري والتسبب بأكبر تهجير قسري منذ الحرب العالمية الثانية.

تحويل السوريين إلى لاجئين، مسؤولية مشتركة عند من استبد بسوريا، ومن يستبد بلبنان، من القصير والقلمون إلى حلب والبوكمال ودرعا وحمص..

لم ينته “المسلسل التاريخي” هنا. فبموازاة المذبحة السورية المنطلقة عام 2011، كانت تجري بتناغم استراتيجي عملية تقويض الدولة اللبنانية ومرافقها، واستباحة حدودها، وتخريب اقتصادها ونظامها المصرفي، وتغذية النعرات المذهبية، والترويج لحلف الأقليات، ومعاداة العرب والغرب.. وكان انفجار المرفأ، تتويجاً مادياً ورمزياً لهذا التكامل والتناغم بين الأمونيوم في بيروت والبرميل المتفجر في سوريا.

أكثر من عقد مرّ، لتصير سوريا الأرض اليباب، ويصير لبنان البلد المستباح. شعب لاجئ يقيم مع شعب مأزوم، معاً في جغرافيا الجريمة المشتركة.

عقد كامل، أسس لاقتصاد الكبتاغون وتبييض الأموال والتهريب والاتجار بالبشر والسوق السوداء والتشبيح والفساد المافياوي، ودولارات رواتب الميليشيات، في سوريا ولبنان معاً. وأسس أيضاً “علاقة” جديدة بين الشعبين، قوامها التنافس المذل على فتات المساعدات الدولية، على ما تبقى من مياه غير ملوثة، على ما تبقى من كهرباء وخبز وحليب أطفال ورعاية صحية وأدوية ومدارس وموارد رزق.. بعد تعميم الإفقار والإفلاس، واستتباب نظام النهب والفساد والتعسف والقمع.

هذه هي الشبكة-الفخ التي ينحشر فيها ملايين السوريين واللبنانيين، فنراهم يتدافعون بعنف مجنون، الكل ضد الكل، في محاولة يائسة للإفلات من المصير القاتم.

وها هم أسياد الجريمة الأصلية في البلدين، يتاجرون ويبتزون ويساومون ويحرّضون.

اليوم، كان المشهد في مركز الأمن العام ببيروت، يمثل المأساة كلها: طوابير لا تنتهي من اللبنانيين طالبي “جواز السفر” للهروب من جهنم اللادولة، وطوابير أكبر للاجئين سوريين يحاولون “تسوية أوضاعهم”، هاربين من جحيم دولتهم.

أما الخلاص، فبات بعيداً أكثر.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا