سياسة الدفاع عن المنتج المحلي بين النظرية والتطبيق

ارتفعت أسعار جملة من السلع في مناطق المعارضة بالشمال السوري خلال الفترة القريبة الماضية، بالشكل الذي آكل من القوة الشرائية للدخول ورفع شكاوى المواطنين من سوء الأوضاع المعيشية. وبين غلاء أسعار السلع من جهة وانخفاض بعضها الآخر من جهة أخرى يقرر المشرّع في المنطقة قرارات اقتصادية في محاولة لضبط إيقاع السوق وتنظيم الحياة الاقتصادية. إلا أن تلك القرارات قد تسبب دخول الأسواق في حالة التضخم inflation   أو الركود deflation  وهو ما يثبط الرغبة والحاجة للعمل والبناء والإنتاج والتوظيف بسبب حالة عدم الاستقرار والفوضى في الأسواق.

كما حصل في قرار معبر باب الهوى في إدلب قبل فترة قصيرة عندما منع استيراد مادة البيض من تركيا بهدف “حماية المنتج الوطني”، واشتكى مزارعو مادة البطاطا من انخفاض السعر في الأسواق مقارنة مع سعر التصدير فضلا عن شكوى المواطنين من ارتفاع سعر ربطة الخبز بشكل كبير. ستناقش السطور التالية هذا الوضع الاقتصادي المتقلّب وفكرة حماية المنتج الوطني ضمن القاموس الاقتصادي وتضع مكامن الخلل وتقترح الحلول لذلك.

الحمائية الاقتصادية

عموماً تفرض الحكومات وفق نظرتها لمشاكل الأسواق، سياسات حمائية تقر بموجبها ضرائب وترفع رسوم وتمنع استيراد مادة شبيهة لمادة تنتج محلياً، بهدف حصر السلع والخدمات المنتجة بأدوات وموارد وكفاءات محلية؛ والحفاظ على مستوى المبيعات وعدم تكبد التجار والصناعيين والمزارعين خسائر في أعمالهم؛ وأخيراً الحفاظ على استقرار وتوازن الأسعار وعدم صدم السوق من مفاعيل خارجية. لكن قد ينخفض سعر السلعة ويسبب فوضى وخسائر مالية، جراء مفاعيل محلية!

وفي هذه الحالة تُفرض سياسات “حمائية”، محلية هذه المرة، لتحقيق التوازن بين العرض والطلب والحفاظ على الأسعار، فتلجأ الحكومة مثلاً لتحديد حجم الإنتاج والصادرات عبر عدة سياسات. فمثلاً إذا كان الطلب السنوي في الوحدات السكنية يُقدر بـ100 ألف وحدة، ستعمد الحكومة لترخيص 80 ألف وحدة سكنية فقط!، لتتيح دينامية وتنافسية في السوق بين عرض محدود وطلب وفير، وبالتالي تحافظ على مستوى محدد للأسعار، وتبقى الحاجة مستمرة لبناء المزيد من الوحدات السكنية وتوظيف العمالة وتحريك الأسواق.

ولا يُستثنى في هذا السياق العملة الوطنية التي سيكون البنك المركزي مسؤولاً بشكل مباشر عن حجم عرض النقود في السوق وعن قوتها الشرائية والمستوى العام للأسعار، لتسهم في استقرار السوق والأسعار والإنتاج وحركة التوظيف وخلق بيئة آمنة وجاذبة للاستثمار.

أسواق غير متوازنة

بالعودة إلى إدلب ستظهر الحالات التالية خللاً في ضبط إيقاع الإنتاج والأسواق. فبعد قرار معبر باب الهوى منع التجار والمندوبين والمخلّصين الجمركيين من استيراد مادة البيض اعتباراً من يوم 18 آب حتى إشعار آخر، بهدف “حماية المنتج الوطني”، ارتفع سعر كرتونة البيض في إدلب من 10- 11 ليرة تركي قبل القرار إلى حوالي 20 ليرة بعد منع الاستيراد علماً أن المنتج المحلي كان يتراوح قبل فرض القرار بين 12 و12.5 ليرة تركية، وبهذا الارتفاع البالغ 50% يكون المواطن قد تحمل عبء سياسة اقتصادية اتبعها معبر باب الهوى، وبينما كان القصد منها حماية المنتج الوطني حلّت آفة التضخم على السلعة والأسواق.

وبالنظر إلى سلعة البطاطا، فقد بلغ سعر الطن الواحد في السوق المحلية بين 70-75 ألف ليرة سورية، وهذا السعر بالكاد يغطي تكاليف الإنتاج من ري وأسمدة ومبيدات وعمالة، في حين يتجاوز ثمن طن التصدير لتركيا 100 ألف ليرة سورية هو سعر يحقق إيراداً جيداً للمزارعين، يجعلهم يطالبون بفتح باب التصدير إلى تركيا وتسويق محاصيلهم هناك ويحمّلون المجالس المحلية مسؤولية تكبدهم للخسائر وعدم جدوى زراعة مادة البطاطا.

ووصل الخلل في التوازن لرغيف الخبز الذي يعد غذاءً رئيسياً للأهالي باعتباره أحد مصادر البروتين المهمة في الدول الفقيرة حيث يصل الاعتماد على الخبز إلى 75%. بلغ سعر ربطة الخبز في إدلب حوالي 600 ليرة سورية، 2 ليرة تركي تقريباً، وفي ظل صعوبة الأوضاع المعيشية التي يعيشها الأهالي جراء ارتفاع نسبة النازحين من تركيبة السكان لتصل إلى 55% تقريباً قد تحتاج العائلة ربطتين يومياً أي 36 ألف ليرة شهرياً، في الوقت الذي يجني عامل المياومة 30 ألف ليرة شهرياً!

مكامن الخلل وطرق تصحيحها

لابد أولاً من ذكر أن الانفصال الجغرافي الحاصل في مناطق المعارضة بين إدلب وريف حلب الشمالي، وتضارب الرؤى والعمل بين المجالس المحلية في منطقة “درع الفرات” وعفرين، وآثار الحملة العسكرية على إدلب وريف حماة الجنوبي، يتسبب بتشظي الموارد الاقتصادية وغياب جسم واحد يشكل رؤية وسياسة اقتصادية موحدة تسهم في حل مشاكل المنطقة عموماً. وبالرغم من هذا الوضع يبقى الهدف تحقيق أدنى حدود الاستقرار الاقتصادي في المنطقة.

أما الإشكالات المذكورة سالفاً فمردها كما يلي: بالنسبة لمادة البيض، تعاني المداجن والمفاقس في المنطقة من عدم توفر البرادات لحفظ البيض المنتج بالأخص في فترات الصيف. وعدم وجود مشاريع كبيرة لحفظ وتخزين البيض لأسباب كثيرة بينها نقص أو غلاء خدمة الكهرباء وعدم الاستقرار وعدم وجود الحافز الكافي بسبب المنافسة الكبيرة من المنتج التركي، كفيلٌ بتوفير كمية محدودة من البيض في الأسواق بالكاد تلبي الاحتياجات المحلية. ومع قرار معبر باب الهوى إغلاق استيراد البيض من تركيا تسبب هذا بصدمة للأسواق جراء محدودية الإنتاج المحلي. فكان الأجدى قبل اتخاذ هذا القرار؛ توفير بيئة عمل مناسبة للمداجن المحلية وتحفيز عملية الإنتاج وبأسعار تنافس المنتج التركي، ليؤول إلى تصديرها إلى تركيا والاستفادة من إيرادات القطع الأجنبي المتأتية من الصادرات. ولا يجب أن تحل سياسة منع الاستيراد محل المنافسة فقد يؤدي هذا إلى الانغلاق والتقوقع وتغدو سياسة غير مجدية على المدى الطويل.

وبالمرور على مادة البطاطا التي يشكو مزارعوها من انخفاض أسعارها في الأسواق المحلية مقارنة مع أسعارها في الجانب التركي، وهي دلالة على وفرة في الإنتاج المحلي واستقرار السعر في الأسواق المحلية وحجم تنافسيتها مع المنتج التركي. والأصل ألا تنتظر المجالس المحلية تسويق منتجاتها بشكلها الخام أو انتظار طلب استيراد الجانب التركي للبطاطا السورية، بل أن تسعى لفتح قنوات استثمارية عبر تشجيع معامل “الشيبس” والبطاطا المجمدة والمعبئة والأصناف الأخرى ليتم تصديرها إلى تركيا وبلدان أخرى، فيستفيد المزارع والمواطن وتنشط الأسواق عبر افتتاح معامل وخلق فرص عمل.

أما فيما يتعلق بمادة الخبز المصنوعة من القمح فليس جديداً القول إن الزراعة تعتبر هوية المنطقة بامتياز حيث تقارب مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في منطقة “درع الفرات” لوحدها نحو مئة ألف هكتار، 75% منها تُزرع بالحبوب (حُمّص، عدس، قمح، شعير). ويشار أن مساحة الأراضي المزروعة بالقمح في منطقة “درع الفرات” تقدر بـ 20 ألف هكتار بإنتاج يقارب الـ75 ألف طن، وفي عفرين قُدرت المساحة المزروعة بـ4 آلاف هكتار بواقع 15 ألف طن وفي إدلب وما حولها قدرت المساحة بـ25 ألف هكتار بواقع 90 ألف طن، أي ما مجموعه 180 ألف طن بحسب تقديرات مديرية الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، بينما قدرت احتياجات المنطقة “درع الفرات” وعفرين وإدلب من القمح حوالي 500 ألف طن سنوياً بحسب إحدى الدراسات.

تشير أرقام الإنتاج والاحتياج لفجوة كبيرة واعتمادية عالية على طحين الاستيراد، أياً كان شكله ومصدره، وهو ما يعرّض رغيف الخبز دوماً لمساومات السوق ويدفع سعره للأعلى مع انخفاض حجم الاستيراد أو الإنتاج أو ارتفاع الاستهلاك منه، لذا يصبح ارتفاع سعر الخبز وفق هذه الظروف واضحاً. لكنه غبر مبرر إذا عُرف أن المساحة المزروعة بالقمح في الأراضي البعلية لا تتجاوز الـ8% أما المساحات المروية فلا تتجاوز نسبة زراعة القمح فيها نسبة الـ30%، وتغدو كافة التبريرات من قبيل ارتفاع أسعار الطاقة ونقص الطحين والخميرة والكهرباء وتذبذب سعر الصرف غير مهمة أمام هذا العجز الكبير في الإنتاج مع توفر المساحات الواسعة لذلك. لذا حريٌ بالحكومات والمجالس المحلية وغرف مديريات الزراعة وضع خطة لتوطين مادة القمح وتشجيع زراعته بهدف الاكتفاء الذاتي وتوفير رغيف الخبز بسعر رخيص جداً للمواطن.

أخيراً، تبدو سياسة الدفاع عن المنتج الوطني و”الحمائية الاقتصادية” سابقة لأوانها في ظل الأوضاع الحالية، وغير فعّالة في ظل منطقة تعاني من مشاكل هيكلية ونقص هائل في الإنتاج وعدم ابتكار أدوات تسويق بديلة عن تصدير المادة بشكلها الخام، والأصل أن يستبدل المشرّع سياسة “الحمائية الاقتصادية” أو حماية المنتج الوطني؛ بتشجيع الإنتاج الوطني وتحفيز الاستثمار وتوفير بيئة خصبة ومنافسة للعمل بالشكل الذي يرفع من وتيرة الأعمال ويدفع نحو تنشيط الأسواق.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا