سياسة تركيا حيال سوريا..حسابات مرحلية وأخرى استراتيجية

تخضع سياسة تركيا حيال سوريا لحسابات معقّدة، فهي تتحدد متأثرة بالوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي، وبالوضع الإقليمي وتداخل مصالحها مع دول الإقليم، وبالوضع الدولي الذي يتمثّل بمحاولات غربية وغير غربية بمنع استكمال تركيا لطريق تنميتها الشاملة والتي وضعتها موضع التنفيذ، بعد أن وصل حزب العدالة والتنمية الذي يقوده الرئيس رجب طيّب أردوغان إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية.

فعلى المستوى الداخلي بشقيه السياسي والاقتصادي، تجد الحكومة التركية في وضع صعب أمام حراك معارضتها، فهذه المعارضة لا تملك برنامجاً سياسياً تنموياً شاملاً تقارع به برنامج حزب العدالة، وهي بذلك تلجأ إلى تضخيم السلبيات السياسية والاقتصادية وتقوم بتصويرها وكأنها كارثة ستحل بالأمة التركية إن لم يتم التصدي لها.

من السلبيات التي تضعها المعارضة التركية بوجه حكومة أردوغان هي ملف اللاجئين السوريين، هؤلاء اللاجئون اضطروا للبقاء في تركيا بسبب تأخر الحل السياسي في سوريا، والذي تتحكم باتجاهاته تداخل الأجندات الإقليمية والدولية فيه، ومن مقدمات سياسية واقتصادية مختلفة.

ملف اللاجئين السوريين لم تضع له الحكومة التركية رؤية استراتيجية، كانت ستمنع من استخدامه كورقة ضغط تكتيكية من أحزاب المعارضة، وهذا لم يفت الأوان بشأنه، فإعادة النظر بهذا الملف لا يمكن أن تتم بصورة صحيحة إن تمّت معالجته بصورة منفردة، فهو جزءٌ من ملف متكامل، تحتاج السياسة التركية إعادة إنتاج حياله، بما يخدم تركيا استراتيجياً على مستوى علاقاتها بسوريا أولاً وبالعمق الحيوي الاقتصادي والسياسي العربي ثانياً.

ويمكن طرح أسئلة بهذا الاتجاه، وكذلك وضع رؤى وخططٍ للاسترشاد بتنفيذ هذه السياسة الجديدة، المتوقع أن تدفع إليها تعقيدات المرحلة إقليمياً ودولياً. ومن هذه الأسئلة الضرورية، لماذا لم تلجأ تركيا وهي دولة قوية عسكرياً، وذات حدود بطول 900 كم مع سوريا إلى انتاج منطقة آمنة ذات مساحة جغرافية تمتد على مساحة شمال سوريا بما فيه شمالها الغربي والشرقي؟

إن طروحات الحكومة التركية المبنية على اتفاق مسبق مع الأمريكيين والروس على إنشاء منطقة آمنة في سوريا تمتد من صفر حدود حتى عمق ثلاثين كم، وعلى طول هذه الحدود في مناطق تواجد قوى انفصالية هي ما يسمى “قوات سوريا الديمقراطية” التي تتحكم بمفاصلها قوات الحماية الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، وكذلك ميليشيا PKK التابعة لحزب العمال الكردستاني المصنف حزب إرهابي، هي طروحات نعتقد أنها هامة في تأمين استقرار اللاجئين السوريين فيها إذا ما توفرت فيها عوامل الاستقرار.

ولإضاءة هذه الرؤية أكثر، يمكن لتركيا أن تفكّر بإعادة انتاج سياستها حيال الملف السوري ككل، بحيث تتحول القضية من مستوى قيمة أمنية تركية، إلى مستوى علاقات استراتيجية، تعيد محورة العلاقات مع العمق العربي وفق رؤية ندية، تحمها رؤية تنموية شاملة، بحيث تتشارك تركيا مع الدول العربية الهامة بقيادة هذه التنمية، ودفعها على مستوى التصنيع المنتج، والخروج من اقتصاد الريع المكبّل لكل تطور ذاتي في بنى المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والفكرية..

إن السياسة التركية التي تعتمد الآن على معارك التموضع المحدود، هي سياسة نعتقد أنها لا تخدم الاستراتيجية الشاملة، التي تمنح تركيا مساحة أوسع، لمواجهة المتغيرات الإقليمية والدولية، بل يجب أن تعتمد السياسة التركية، كما نرى، على رؤية استراتيجية جديدة، يُعاد من خلالها ترتيب وضع القوى العسكرية للجيش الوطني السوري، من كونه تجميعاً عددياً لمكونات لا تزال تحكمها التفاوتات في البناء والرؤية وربما الأهداف الحقيقية، إلى كونه جيشاً احترافياً، يُبنى على أساس بناء الجيوش التقليدية من حيث بنيته وتسليحه ونظام قيادته واختصاصات فرقه وألويته وكتائبه.

إن وضع مساحة الشمال السوري كله على طاولة البحث والدراسة، واتخاذ القرار على قاعدة العمق المحدد بثلاثين كم، هو أمرً ضروري وحاسم، لإغلاق ملفات باتت عبئاً على تركيا، وعلى قوى الثورة والمعارضة وفصائلها العسكرية.

وضع مساحة الشمال السوري على الطاولة يعني دراسة شاملة للمستويات التالية: (الاقتصادية وتشمل “زراعة خدمات صناعة تجارة”، ووضع وتوفر الثروات الطبيعية “مياه جوفية، أنهار، فلزات وغيرها”، الواقع الأمني والعسكري الملموس، الواقع القضائي والقانوني في هذه المناطق وضرورة توحيد أجهزته وتحديث قوانين عمله، الواقع التعليمي بمستوياته كلها بما فيها الجامعي الأعلى، البنية السكانية ومستوى المعيشة الخ).

إن الحكومة التركية معنية بإعادة انتاج رؤيتها حيال هذه المناطق الهامة، والتي تشكل ما نسبته أكثر من أربعين بالمئة من مساحة سوريا.

إن تنفيذ هذه الرؤية يتطلب قراءة هادئة وعميقة للجهد العسكري والحربي المطلوب لتنفيذها، فإذا ما تمّ وضع هذه الرؤية الاستراتيجية موضع التنفيذ، فهو يعني تدمير الرؤية الروسية للحل في سوريا، والتي تعتمد على إعادة إنتاج نظام مثقل بالجرائم المثبتة بوثائق موجودة لدى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، هذه الرؤية الروسية، تريد استخدام ورقة احتلالها لسورية لتحقيق أهداف مختلفة بضربة واحدة، من هذه الأهداف، المحافظة على موقع قدمٍ في المياه الدافئة (البحر الأبيض المتوسط)، ومنها التحكم بسياسات واقتصاد سوريا، والدليل على وضع يدها على مرافئ سوريا والسيطرة على مناجم الفوسفات وغيره، وكذلك استخدام وجودها في هذا البلد للتدخل في شؤون البلدان الأخرى كأوربا ومنطقة الشرق الأوسط.

إن ترك الروس يلعبون بالملف السوري، عملية خطرة استراتيجياً، كذلك إن تنفيذ الرؤية الاستراتيجية التركية يعني تدمير المشروع الإيراني في سوريا، والذي يريد تحويلها إلى محمية إيرانية، تخدم سياسات ملالي طهران العدوانية حيال دول المنطقة.

إن تركيا معنية بالتفكير بمجالها ومصالحها الحيوية في المنطقة العربية، الممتدة من سوريا نحو منطقة الشرق العربي بكامله، وهذه الرؤية تدفع نحو تكامل اقتصادي تدريجي، يعتمد على بناء تنمية شاملة للمنطقة، تنمية لا تزال غائبة عربياً بالمعنى الاستراتيجي الإقليمي، أو حتى في مستوياتها الوطنية لكل بلد.

لذلك ننتظر من تركيا كشعب سوري في كل أرجاء سوريا، العمل على خلق منطقة استقرار حقيقية في الشمال السوري كله، وهذا يعني القضاء على القوى الانفصالية ومشاريعها، والقضاء عليها كأدوات مستأجرة لخدمة مشاريع أجنبية لا تريد لمنطقتنا التطور والازدهار. كذلك يعني إعادة انتاج الاستقرار في هذه المناطق على كل مستوياته التي ذكرناها في سياق هذا المقال، مما يجعل منطقة الشمال السوري منطقة جذب اقتصادي وسياسي، ومنطقة آمنة ذات استقرار شامل، مما يجعلها قبلة لتغيير في سوريا.

فهل ستعيد تركيا انتاج سياستها الاستراتيجية والمرحلية حيال سوريا، بما يخدم الجميع استراتيجياً، أم أنها ستبقى سياسة المواضع المحدودة والتي تطيل من عمر الصراع في سوريا. فالوضع الدولي تغيّر بعد شنّ روسيا عدوانها على أوكرانيا، هذا التغير على مستوى التحالفات والصراعات، تبدو تركيا أن بإمكانها أن تكون الأكثر استفادة من هذه التحولات، فحلف شمال الأطلسي الذي تنتمي إليه يطلب ودها، وروسيا تحتاجها، والإيرانيون سيقعون في شرّ صراعات داخلية إذا واجهتهم تركيا في سوريا أو خارجها، مما يمنح السياسة التركيا قوة دفع كبرى، لتنفيذ رؤية استراتيجية شاملة، ستنعكس على تنميتها وعلاقاتها بالمنطقة بصورة إيجابية فعّالة.

هذه رؤية ولعلنا نقارب بها واقع ما تحتاجه منطقتنا وفي مقدمتها سوريا.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا