عندما تصبح السويداء من أهم مدن العالم

تنهض بيوت الفقراء في السويداء في سورية فوق قصور النظام وأوانيها القديمة، حين تتمسّك بقضية الحرية، أرقى ما في البشرية قبل الخبز والحليب والسكر. تأخذ الاحتجاجات المستمرّة بألوانها الطازجة وأصواتها المنعتقّة/ الحيّة تعبيرا رمزيا أكثر قوة، حين تتحدّى المنع والحظر والترهيب والإقصاء في واحدةٍ من أهم مدن العالم الإنسانية اليوم (3% من عدد سكان سورية). تسترجع السويداء روح الشعوب وأجواء الهوّية الذاتية والجماعية السورية المهدّدة بالانقراض، والتي تقهقرت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة. منذ العام 2011، تحوّل النظام نحو أنظمة اللا استقرار في المنطقة، وتحوّلت أرض سورية إلى ساحة صراع دوليّة مع الطغيان في ممارسة السلطة والظلم المتمادي. سلطة غير قادرة على دفع السوريين إلى حلّ تناقضاتهم سلميا، أو الأخذ بأيديهم، وإيجاد حلول لمعاناتهم. لم يُصغِ النظام إليهم، وهم خارج اهتماماته، ولا حتى عمد إلى مداراتهم ومسايرتهم بمألوفهم. تعامل معهم كملكيّة خاصة من دون سياسة في إدارة شؤونهم، واستخدم كل الوسائط في تحالفات بين المؤسّسات السياسية والأمنية القائمة على إبقاء عالمه الخاص كما كان، وبما هو آتٍ، يفعل ما يشاء.

اثنتا عشرة سنة حوّلت الشعب السوري إلى “كائن بلا مصير”.. فهبّت رياح الثورة مجدّدا في الجغرافيا ذات الأكثرية الدرزية وفي الساحل السوري، حيث الكثافة العلويّة. منذ السبعينيات، عزّز حلف الأقليات على أن يضم العلويين والمسيحيين والدروز والشيعة في سورية ولبنان. اقتنع العالم بمساكنة نظامٍ لا يمكنه إلا أن يكون ماكرا وخبيثا، ولا ينفكّ يقاوم غواية عدم تصحيح ما خلّفه من دمار ومآس قادت بلاده إلى الهاوية، ولا شيء يتعلق عنده بالإنسان إزاء تعطيله المتمادي كل جهود الحلّ السلمي (ثمانية اجتماعات دوليّة). وجد في التطبيع العربي وسيلة للانخراط في صفقات “الكاش” وانتصارات، فإذا الأزمة بلغت مداها من الجمود السياسي، فرفع المتظاهرون في السويداء مطالب تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، الذي ينصّ على انتقال سياسي وتأسيس نظام جديد.

تخرج مدينةُ من حيث لا يحتسب، بكل تلك “الأناقة الثورية” في وقتٍ كان العالم بعيدا عن تصديق ذلك، ويُفاجأ حين ترتفع الأصوات لإزالة رئيس دولة/ تاجر موت، و”غير مفيد”، إلا لمجموعة صغيرة وضيّقة من الأشخاص الذين لا يحتاجهم الشعب السوري. وهناك إدراك واسع حتى بين أنصاره السابقين والمحايدين من تردّي الأوضاع الاقتصادية، فوجدوا أنفسهم للمرّة الأولى في دائرة واحدة من الاحتجاجات التي اتّسعت لتشمل درعا وإدلب ودير الزور، وفي مناطق كانت فيها المنظمّات الأهلية قوية، سيما الجغرافيا الحسّاسة بين الأردن وسورية، والعشائر لا تعترف بالحدود في الجنوب.

تحوّل النظام إلى كرة نار يتقاذفها الجميع من دون مراعاة سيكولوجية الشعوب والعوامل التاريخية والجغرافية والبيئية التي تخضع لها. لا يسأل النظام الذي يحاول التملّص من الأكثرية السنيّة نفسه، إن لم تكن تلك الأرض موجودة في الماضي، وفي مستقبل سورية، فيعود هو وحلفاؤه إلى إطلاق التحذيرات من “المؤامرة الكونيّة”، والإرهاب، و”المرتزقة” (لونا الشبل)، وهي تصف أهلها وأبناء شعبها، وإن اختلفت هواجسهم، فهم ينظرون إلى الاحتلالات المتعدّدة، خصوصا استثمارات الروس والإيرانيين في ثروات سورية. ما كان ممكنا جمعُه بالحدّ الأدنى من الخسائر عام 2011، صار مستحيلا وبالأضغاف بعد عمليات القتل والتهجير والتدمير وتحوّل البلاد الى مناطق متنازع عليها (830 موقعا عسكريا أجنبيا العام 2022).

سيحاول النظام إضعاف انتفاضة السويداء من داخلها، أو الضغط من الخارج على نسيجها، ويعمد الى تخريب الحراك المتدفّق بمزاج سياسي في السياق الذي تدهورت فيه ظروف العيش أيضا في الساحل ودمشق واللاذقية وتأديب المتظاهرين، إذ يتّهمونه وعائلته بييع مقدّرات البلد إلى ما وصفوها “الاحتلالات المتعدّدة”. لذا قد يُنصت إلى نصائح الحليف الإيراني الذي يبدي تشدّدا في لبنان مقابل إحساسه بأن سورية يمكن أن تفلت من يده، على عكس لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله.

يدفع النظام ثمن خياراته الخاطئة، بعدما اكتشف الجميع، بما في ذلك تركيا، أنه غير قادر على الالتزام بتعهداته، وسورية تتّجه إلى مزيدٍ من التفتت. وفي المقابل، يؤكّد أهالي السويداء عدم قدرة النظام على التحكّم بالأوضاع بعد الآن بإرسال المدرّعات، أو تهديداته بالقتل والاغتيالات وتفجير السيارات بمساعدة “داعش”، أو من جماعات تلبّس لباسها. لا يستطيع النظام الدخول في مواجهةٍ مع جغرافية درزيّة لا يمكن حصرها سياسيا ومذهبيا، ولا مواجهة مباشرة مع العائلات العلوية، بغية الحفاظ على ولائهم، وهي تمثّل 30% من الاقتصاد السوري، وتظهر استعدادا لمعارضتة وسط تذمّر عام من تراجع الموارد الاقتصادية، وخسارة أكثر من خمسين ألفا من عديد شبانها على مدى سنواتٍ من الحرب، لا تزال بعيدة عن خط نهاياتها مع الرؤى الإقليمية والدولية المتضاربة. هذا إلى جانب تعثّر مسار التطبيع العربي، وهو جزء أساسي من التعبير الذي استخدمه الأسد في مقابلته التلفزيزنية مع “سكاي نيوز عربية” عن “العلاقات العربية – السورية الشكليّة”.

تمثّل احتجاجات السويداء ودرعا تحدّيا للسلطات السورية، وتُنذر بالحاجة إلى حلٍّ عاجلٍ في سورية، ويمكن أن تساعد في تفعيل عمل لجنة الاتصال الوزارية العربية لمتابعة تنفيذ بنود بيان عمّان الصادر في مايو/ أيار 2023. لم ينفذ النظام، ولم يعط العالم شيئا، فزادت الهجرات من مناطق سيطرته ارتباطا بالأوضاع المعيشية المزرية أكثر من الأسباب الأمنية. ولكن هذا ليس السبب الوحيد، فما حصل في مجازر الغوطة والتضامن وخان شيخون وبانياس والحولة، وما رافقها من أعمال تطهير عرقية، هو أكثر من مجاعة، لا سيما حين يندّد المتظاهرون بما وصفوها “جمهورية الكبتاغون” التي تهدّد “الأمن العالمي” (الأمم المتحدة)، وأمن الدول الخليجية، ومع إطلاق “المسيّرات” باتجاه الأردن، محمّلة ليس بالكبتاغون فحسب، بل بالمتفجّرات أيضا. يطالب المتظاهرون بإسقاط رأس النظام في هتافات ساحة الكرامة، وواحد من هتافات الساحل أيضا “يلاّ ارحل يا بشّار”. ويحصل هذا كله في الفترة التي حصل فيها التطبيع العربي، وأخذ الأميركيون يخفّفون من عقوبات “قيصر” الأميركية بعد الزلزال الذي ضرب كيليكيا التركية والشمال السوري. وفي وقت صارت البلاد أضعف من ذي قبل مع انهيار العملة (فقدت 99% من قيمتها)، وأزمة تصدير الإنتاج وتأمين المحروقات والأدوية، ولم تفتح الطرق لمساعدات عربية لإعادة إعمارها، يجيء الحراك (من دون تحديد سعر التكلفة)، ليفرض نفسه على واقع النظام، وعلى شتات المعارضة لإعادة إنتاج خطابها الذي لم يف الموضوع الاقتصادي الاجتماعي قدره.

من الصعب تخيّل أن مهمّة إنقاذ السوريين مستحيلة، وأن العالم لا يستطيع التعامل مع تواريخ إنسانية متوحّشة.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا