عن مأساة بدأت في بلادنا وانتهت في أوكرانيا  

ها نحن في القطار متوجهين من برشلونا إلى مدينة زراغوزا الإسبانية، حيث تنظم منظمة “WAN-IFRA” مؤتمرها السنوي الذي يحضره نحو ألف صحفي من العالم. من المفترض أن يُحضر الصحفيون قضاياهم وقصصهم لمناقشتها وتداولها، ومن المتوقع أيضا أن تكون القضية الأوكرانية مادة النقاش الرئيسة، كونها قضية العالم الأولى هذه الأيام، وكون المؤتمر أيضاً منعقدا في أوروبا، وعلى أبواب شتاء، مع قليل من الغاز وكثير من البرد.

لكن ماذا عن شتائنا نحن أبناء هذا المشرق البائس؟ ماذا عن رحلات الموت عبر مراكب هجرة الهاربين من جحيم الأنظمة الفاسدة والمستبدة؟ المركب الواحد يشكل تابوتا لثلاث قضايا، لكل واحدة قصتها، فهل يتسع الغرب لغير قصته؟ فلسطينيون ولبنانيون وسوريون، يستقلون المراكب الهشة هرباً من احتلال وفساد واستبداد. يموتون إلى جوار بعضهم بعضاً. يأكلهم بحر واحد من دون أن يرف جفناً لمن دفع بهم إلى هذا المصير. ثم أن الزوارق الناجية، على ندرتها، ستصير قصة الغرب عندما ترسو على الشواطئ الأوروبية.

مأساة أوكرانيا مع روسيا ليست أفدح من مأساتنا مع هذه الأنظمة. أرقامنا تفوق أرقامهم لجهة عدد الضحايا، وإذا كان لديهم فلاديمير بوتين واحد، فلدينا في كل بلد نسخ من هذا الديكتاتور. لدينا احتلال في فلسطين، وفساد في لبنان، واستبداد في سوريا. ولكل من هذه المصائب قصصها التي أوصلت إلى مراكب الموت.

ماذا لو أخبرنا زملاءنا في المؤتمر أن ناجين من زورق جزيرة أرواد اعتقلهم الأمن السوري؟ وماذا لو أخبرناهم أن رئيس جمهورية الانهيار اللبناني لا ينوي مغادرة القصر عندما تنتهي ولايته؟ ثم ماذا عن اللاجئين الأبديين، ممن غادروا بلادهم بعد نكبة العام ١٩٤٨؟

نعم، القضية الأوكرانية أقرب إليكم جغرافياً، وثمة “زر نووي” في الأفق، والأهم أن البرد على الأبواب، لكننا أيها الزملاء جزء من هذا العالم أيضاً، لا بل أن كارثتكم جرى اختبارها في بلادنا قبل أن تلامس أطراف دولكم. فلاديمير بوتين أجرى مناورة بالسلاح الحي في مشرقنا، وشعر أنكم خضعتم لقوته في سوريا، فأطلق العنان لطموحاته في أوكرانيا. وهذا الرجل أقام توازناً مرعياً من قبلكم بين المصالح الإسرائيلية في سوريا وبين النفوذ الإيراني فيها. لقد صفقت الحكومات الغربية لقدرته على إقامة هذا التوازن.

طبعاً، لسنا اليوم بصدد مبارزة بين مآسينا ومأساتكم المستجدة، لا سيما وأننا صحفيون ساعون لإيجاد مكان لقصصنا ولتحقيقاتنا في عالم تتسع فيه المساحات للأشرار، وقادمون من بلاد يقذف بحرها كل يوم مزيد من جثث الهاربين من جحيم الاحتلال والاستبداد والفساد.

نحن نرى ونختبر حقيقة أن القصة التي تبدأ من سوريا تنتهي في أوكرانيا، وأن الفساد الذي يقذف باللبنانيين إلى البحر له في عواصم أوروبية أصول ومصارف وموجودات. وفي المقابل، نعم نحن يجب أن نكون معنيين بما أصاب الأوكران جراء انقضاض بوتين على بلدهم، ويجب أن نتفهم انشغال أوروبا بالكارثة المحدقة بشرقها، وبموجات النازحين الأوكران والروس، الذين ترى “ثقافة الاستيعاب” انهم أولوية في برامجها.

لكن الميل للتمييز بين المآسي، وإن انطوى على حسن نية، يبقى قاصراً عن الإحاطة بجوانب المأساة. ترك بشار الأسد يقتل على غاربه من السوريين سيقذف بمزيد من اللاجئين إلى أوروبا، ومرة أخرى يجب ان لا ننسى أن بوتين بدأ من هناك، لا من هنا. وتسليم لبنان لحزب الله، ومواصلة حماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، سيفضيان إلى نهاية لا تقل مأساوية عن النهاية السورية.

الكوارث شديدة الصلة بعضها ببعض، وشديدة التشابه أيضاً. الدور الروسي في سوريا لا يقل فداحة ودموية عنه في أوكرانيا. ولنتأمل بمستوى الشبه بين الأوليغارشيا الروسية المحيطة ببوتين، والأوليغارشيا اللبنانية التي تولت إفلاس لبنان والسطو على جنى أعمار ثلاثة أجيال من اللبنانيين. وها نحن نكتشف جوانب جديدة من العلاقات بين هذه الأوليغارشيات، فالوثائق بدأت تكشف عن شراكات للالتفاف على العقوبات في مثلث العلاقات التجارية السورية والروسية واللبنانية. القمح الأوكراني المسروق يعبر مرافىء الدول الثلاث، والـ”غولدن باسبور” القبرصي يتشارك فيه الفاسدون في الدول الثلاث، والجنات الضريبية التي يلوذ فيها الهاربون من رقابة الأنظمة المالية العالمية تعج بالشركات متعددة الجنسية، ذات الهويات المغفلة التي أفضت إحداها إلى انفجار مرفأ بيروت.

القصة الصحفية لم يعد إنجازها ممكناً من دون تحالف صحفي صادر عن شعور بأن عناصر المأساة عابرة لحدود الدول، وأن البحر الذي يبتلع الهاربين من جحيم الأنظمة، هو أيضاً صلة وصل بين الفاسدين والمستبدين.

المصدر الحرة


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا