في فيدرالية الطوائف السورية

بعد أيام من انطلاق مظاهرات عام 2011، بادرت أبواق الأسد إلى ترويج أنه استجاب لمطالب المتظاهرين، وسيعيد المنقّبات إلى العمل في “سلك التعليم خاصةً”، وستكون هناك محطة تلفزيونية دينية وزيادة في الرواتب. باختصار، كانت تلك الأبواق تروّج لكونه لبّى ما لم يطلبه أحد من المتظاهرين آنذاك، بهدف إلصاق تهمة الأسلمة بهم مع تلميحٍ إلى دافع اقتصادي يمكن معالجته بزيادة الأجور، وهو ما واجهه المتظاهرون بهتاف: الشعب السوري مو جوعان.

أبواق الأسد سرعان ما واجهت انتفاضة السويداء الحالية بما لم يطالب به أهلها، حيث اتهِمت فوراً بالسعي إلى حكم ذاتي أو إلى الانفصال، مع الحديث عن الشيكل الإسرائيلي الذي يقبضه المتظاهرون. تكرار هتافات المتظاهرين ذات المطالب المعيشية التي تجمعهم بكل السوريين، والسياسية التي تجمعهم بمعظم السوريين، لن يكون كافياً لتفنيد الاتهام ضمن ثقافة سورية شائعة أساسها ممارسة التقية السياسية، وعدم الجهر بالمكنونات والمطالب الحقيقة، وهذه تهمة ناجمة عن عقود من القمع والكبت تحت حكم البعث والأسد.

الأثر غير المباشر للاتهامات ولتلك الثقافة نراه في القول المضاد الذي يبرر لأهالي السويداء نيتهم المطالبة بحكم ذاتي، ويرى في ذلك حقاً لكل الجماعات السورية التي لا تفصح “وفق هذه المنظور” عن مكبوتاتها التي لا تتلاءم مع دولة وطنية. بل إن مجرد الإشارة إلى دولة وطنية مدعاة للسخرية بعد العنف الواقعي والرمزي الذي مارسته هذه الجماعات في السنوات الأخيرة، فضلاً عن أن هذا الشعار يرفعه كثر كغطاء لنوازع الهيمنة ليس إلا.

الحديث في الفقرة السابقة هو عن نقاشات ضمن أوساط معارضة، يرى أصحابها إمكانية واقعية لانفكاك السويداء عن قبضة الأسد، ليس بالضرورة على غرار مناطق الإدارة الذاتية “تحت الحماية الأمريكية”، أو مناطق المعارضة “تحت الحماية والنفوذ التركيين”. والحديث يستند أيضاً إلى استحالة ثورة الساحل على الأسد، والحل يكون بحكم ذاتي هناك يطمئن مخاوف العلويين من سيطرة مركزية سنية، وقد يشجّعهم هذا الطرح على التخلي عن الأسد. وفق هذا المنظور، يبدو الطريق إلى الفيدرالية سهلاً بالمقارنة مع مطلب التغيير الديموقراطي، المطلب الذي لا يراه بعض أنصار الفيدرالية مطلباً أصيلاً، أو ذا شعبية حقيقية غير متصنّعة.

نناقش هنا فكرة الفيدرالية بدءاً من المدخل الذي يستسهل تطبيقها مقارنة بمطلب التغيير الديموقراطي. فحسب المعطيات المعروفة للجميع، لا تلوح في الأفق العملي إمكانية حقيقية لتسليم الأسد بالتخلي عن سلطاته والانكفاء إلى “حاضنته الشعبية-حسب القول الشائع” في الساحل، ليكون حاكماً لها فقط، ومَن لم يقبل المشاركة بجزء من صلاحياته لن يقبل بلامركزية تجرّده من سطوته على عموم السوريين. أما فرضية انقلاب الساحل عليه فحظها من النجاح ضئيل، سواء تعلق الأمر بالانتقال إلى فيدرالية الطوائف أو إلى تحول ديموقراطي، وكذلك هو حال الوصيين الروسي والإيراني اللذين لا تتجاوز أطروحاتهما في أقصاها اللامركزية على طريقة الاستبداد البوتيني. باختصار، ليس هناك من سند ملموس لسهولة تنفيذ مطلب فيدرالية الطوائف، أو الاتفاق عليه، حتى إذا لم نأخذ بالحسبان الحروب المتوقَّعة لتقاسم كعكة الفيدرالية.

النموذج الروسي يحيلنا إلى الإرث القيصري، والإرث الإمبراطوري عموماً، وفيه تكون اللامركزية ضرورةً بسبب المساحات الشاسعة للبلد، من دون أن تكون ذات مضمون ديموقراطي. وهو نموذج مختلف جداً عن اللامركزية الحديثة بوصفها ابنة التجربة الديموقراطية، بل هي في معظم الحالات وصفة لتعزيز الديموقراطية بتبديد السلطة من رأس الهرم إلى أوسع قاعدة شعبية، ومن التبسيط والخفة الشديدين اختزال تجربة اللامركزية في دول الغرب بمنح سلطات ذاتية على أساس إثني، أو إثني-مذهبي معاً في بعض التجارب.

المسألة، كما نبسّطها ونختزلها أيضاً، هي في أولوية الديموقراطية التي عنت وتعني أولاً حقوق الفرد متضمنة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة. أما الاهتمام بحقوق الجماعات فهو لاحق على إقرار حقوق الأفراد، ومنها حقهم في تأسيس جماعات وفي الانضواء ضمن جماعات “أهلية” قديمة الوجود، وحقهم في الخروج من هذه الجماعات. أي أن حق الجماعات “القديمة والمستحدثة” نابع أصلاً من حق الأفراد، مع التأكيد على حق الأفراد في الخروج من أية جماعة على قدم المساوة مع حق الانضواء فيها.

بعبارة أخرى، الطروحات السورية التي تتضمن الدعوة إلى فيدرالية طائفية، كبديل عن مطلب التحول الديموقراطي، هي أفكار تضحّي بأساس الديموقراطية متعيّناً بحقوق الأفراد الأساسية التي يجب أن تكون لها الأولوية. هذا يفتح الباب أمام هيمنة الجماعات، وبحيث يكون اتحاد الكانتونات اتحاداً للجماعات على حساب حقوق أفرادها أولاً، وتبديداً لاستبداد المركز إلى استبداد لا مركزي ميزته الوحيدة أنه استبداد داخلي ضمن الجماعة الطائفية أو الإثنية الواحدة. ويجدر الانتباه إلى أن هذه الفيدرالية، بغياب الديموقراطية، هي على قياس الجماعات الأهلية القديمة، والتي بطبعها لن تقبل حقاً أساسياً للأفراد هو الحق في الخروج منها أو عليها.

حتى ما قبل انتفاضة السويداء كان مطلب الفيدرالية يجد جمهوره الأوسع لدى الأكراد، ولدى الإدارة الذاتية التي تضعه دائماً في رأس مطالبها، ولدى قلّة قليلة جداً من المهتمين بالشأن السوري. مع انتفاضة السويداء توسعت دائرة الاهتمام بالفيدرالية والنقاش فيها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا نقاش قد يكون جيداً بقدر ما يبتعد عن السطحية وعن العصبيات كمحرّك أساسي أو وحيد له.

فضيلة هذا النقاش الأولى تكون إذا أتى للتفكير في سوريا ما بعد الأسد، وضمن مشروع للتحول الديموقراطي، لتكون اللامركزية من عناوين التحول، ومن ركائزه التي تمنع استبداداً لاحقاً بما أن المركزية تربة خصبة للاستبداد. من دون المحتوى الديموقراطي سيكون عنوان اللامركزية هو اقتسام الأسدية وفق محاصصة طائفية وإثنية، ولدينا تجربة مجاورة في لبنان نستطيع الاهتداء بها لجهة تمكّن الجماعات الأهلية من إعاقة الانتقال الديموقراطي، حيث بقي الهامش الواسع من الحريات الشخصية “مقارنةً بدول الجوار” ممنوعاً من الصرف ديموقراطياً، ولم تقدّم تجربة المحاصصة العراقية نموذجاً أفضل بدلالة ما لاقته انتفاضات الشباب العراقي ضدها.

بخلاف ما تريده أبواق الأسد، إذ تشيطن السويداء بتهمة السعي إلى الانفصال أو إلى حكم ذاتي، يأتي النقاش في اللامركزية لينزع قداسة مضلِّلة وموهومة عن وحدة السوريين، والتي هي بمثابة أمل يختزنه هتاف المتظاهرين “الشعب السوري واحد”. وإذا أكّدنا على ألا تكون اللامركزية بديلاً عن الديموقراطية فمن الواجب التأكيد على ألا يشترط مطلبُ الديموقراطية نظاماً مركزياً، لأنه شرط ينتقص من المطلب الأساسي ومن حرية السوريين في الاتفاق على نظامهم السياسي. في الواقع، هناك أنماط عديدة من الفيدراليات والكونفدراليات الحديثة لا بأس إذا تعلمنا منها، بلا انتقائية سطحية تنقض أساساتها.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا