في ما وراء نكتة الأمين العام لحزب البعث

قال بشار الأسد: أمة عربية واحدة. وردّ الحضور بالقول: ذات رسالة خالدة. هكذا استُهلّ اجتماع القيادة المركزية للحزب بترديد الشعار، من دون إفراط بعدما تم الاستغناء عن ترديد الأهداف التي كانت ملازمة له، فكان قائد الاجتماع الحزبي في ما مضى يقول: أهدافنا. لتجيب جوقة الحضور: وحدة.. حرية.. اشتراكية.

وكان السوريون قد عاشوا ساعات من الترقب يوم السبت الفائت، إذ تواردت الأخبار عن حشود عسكرية متجهة إلى جنوب دمشق مع أقاويل عن دخول بعض القوات إلى محافظة السويداء المنتفضة ضد الأسد. في الخلاصة انقشع غبار الإشاعات عن أن تلك القوات متجهة لتأمين منطقة قصر المؤتمرات الذي شهد اجتماعاً لقيادة حزب البعث، وأتى الخبر من إعلام الأسد بمثابة نكتة تنصّ على أن المجتمعين انتخبوه بالإجماع أميناً عاماً لحزب البعث، ثم قام بدوره بتعيين القيادة المركزية وهي التسمية التي اعتُمدت من قبل بدلاً من القيادة القطرية بعد حلّ القيادة القومية للحزب.

أتى الخبر مضحكاً مرتين، مرةً بداعي البهجة لأنه أنهى لحظات الخوف على السويداء، ومرة ثانية لأنه “بصرف النظر عن السبب الأول” أتى كأنما من ماضٍ نسيه معظم السوريين، وأصبح معه حزب البعث شيئاً تراكم فوقه الكثير جداً من الغبار. بل سرعان ما جرى تداول صور لبعض مندوبي الحزب في الاجتماع وهم يتثاءبون، أو في وضعيات أخرى تدل على التململ أثناء إلقاء الأسد كلمته التي استغرقت زمناً يزيد عن الساعة.

في نكات متفرّعة عن النكتة الأكبر، تحدث الأسد عن القمع الوحشي في الجامعات الغربية الذي “يعبّر عن حالة هلع للمنظومة الغربية”، ولأن الغرب بعد الثورة الطلابية نهاية الستينات “يعتقد أنه قد تمكّن من تدجين الشعوب الغربية، وخاصة الشباب، وكانت ذروة هذا التدجين مرحلة كورونا كما رأينا”! ثم أنهى الأمين العام خطبته بالإشارة إلى خصومه في المعارضة فقال: “لم نر الخونة يذهبون إلى الكونغرس للمطالبة بقانون محاسبة إسرائيل”. والأكثر إضحاكاً قوله: “لم نسمع بثيران الثورة، الذين سُمُّوا خطأ بالثوار، لم نسمع بأنهم أطلقوا صاروخاً واحداً من أجل كرامة غزة”. وكأنه هو يُمطر إسرائيل بالصواريخ يومياً، أو على الأقل ينجح في التصدي لغاراتها على أماكن سيطرته.

لكن وجود البعث ومؤتمره الأخير ليسا محض فاصل ترفيهي يتداوله السوريون ليوم أو يومين للترويح عن أنفسهم، فالحزب، الذي لم يعد في آخر نسخة من الدستور قائداً للدولة والمجتمع، هو كما ورد في خطاب الأسد: يقوم برسم سياسات الحكومة. أي أنه يقود الحزب الحاكم، ومهما سخرنا من هذا التعبير فهو ضروري جداً، ويكفي لتوضيح ضرورته أن نتخيله حاكماً بلا حزب ولو كواجهة شكلية، أي أن يقدّم سلطته على ما آلت إليه حقاً، كسلطة مخابرات وشبيحة لا غير.

كان الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل قد نقل عن حافظ الأسد في أواخر أيامه تبرّمه من أوضاع الحزب، وفُهم ذلك في حينه توجّهاً لتخليص وريثه والسوريين من عبء البعث الذي يتخلل حيواتهم منذ الطفولة عبر منظمة طلائع البعث، وصولاً إلى كافة مناحي الحياة على غرار الأحزاب الشمولية في التجربة السوفيتية البائدة. إلا أن التخلي عن البعث يتطلب إنشاء بديل له، والحزب البديل إما أن يكون من الطينة ذاتها تقريباً، ولا حاجة للتغيير في هذه الحالة، أو أن يكون من طينة مغايرة حقاً، ما يقتضي تغييراً جاداً في الحياة السياسية السورية ككل وهو خيار غير مطروح بالطبع.

حزب البعث هو ضرورة لأنه “على كل تهافته” يقدّم معنى ما لسلطة خالية من أي معنى، باستثناء المعنى البدائي المتوحش لكلمة السلطة. ويمكن إجمال التجربة الحزبية عالمياً بنوعين أساسيين؛ أولهما الأحزاب التي تنشط في دول ديموقراطية، وتقدّم برامج تتعلق أولاً بقضايا الاقتصاد والخدمات والإدارة، بما يتناسب مع أيديولوجيات غير شمولية أو انقلابية. النوع الثاني الذي انقرض في معظم أنحاء العالم يتعين في الأحزاب الأيديولوجية الشمولية، وفي جميع التجارب آلت هذه الأحزاب إلى ديكتاتوريات أو أنظمة استبداد، وكانت أهدافها الكبرى التي لا تتحقق “ولن تتحقق” ذريعة لتهرب المستبد من واجباته تجاه محكوميه كمغتصب للسلطة المطلقة.

على ذلك قال بشار في كلمته أن عهد الأيديولوجيا لم ينتهِ في العالم، وهي الفكرة التي شاعت مع انتهاء الشيوعية، بل زعم أن العالم يعيش أعلى مرحلة أيديولوجية، وأن أخطر ما يواجهه الوطن هي الحروب العقائدية، مشيراً على نحو خاص إلى الليبرالية الجديدة والتطرف الديني والنازية الجديدة. وهذا ما يبرر له تالياً القول أن دور الأحزاب العقائدية، ومنها البعث، هو أقوى من أي وقت مضى، فالحرب العقائدية المزعومة مهرب مستدام من واجبات السلطة بعد انتهاء الحرب الفعلية.

ثم يلجأ إلى التلفيق الفكري من أجل ردم الفجوة الشاسعة مع إرث البعث، فيقول أن سوريا لم تكن اشتراكية في أي يوم، ما عدا تطرف تيار صلاح جديد في النصف الثاني من الستينات. وهو لم يذكر جديد بالاسم، ولم يذكر أباه بالاسم في معرض الإشادة بانفتاح السبعينات، وكأن خطابات الأب لم تمتلئ بشعارات الاشتراكية، بل كانت تهمة المعتقلين السياسيين، بمن فيهم معتقلو الأحزاب الشيوعية، هي معاداة النظام الاشتراكي. أما في الشق القومي فهو لم يتحدث عن الوحدة كهدف، أو كحلم حتى، وطرح مفهوماً خاصاً للعروبة “الحضارية الشاملة المبنية على التنوع الديني والعرقي!”، منوِّهاً بأنها ستبقى “أساس فكرنا وانتمائنا”.

رغم ما في تعريف العروبة من ركاكة، خاصة قيامها على التنوع العرقي، يمكن فهْم التأكيد على الانتماء إليها كإشارة ذات مغزى داخلي وخارجي معاً. ففي الشق الخارجي يظهر كأنه يغازل “العمق العربي”، ويقدّم رشوة لفظية للذين يتمنّون لو يبتعد قليلاً عن إيران. الرشوة ذاتها موجَّهة في الداخل إلى العرب السُنّة، بعدما كان خطاب شبيحته منذ اندلاع الثورة قد شيطن العرب والإسلام معاً بخطاب طائفي شبه صريح، والمصالحة مع هذه الفئة المستهدَفة هي حالياً من ضمن وظائف البعث المتواجد على امتداد البلد. أي أن الحزب، بكل ركاكته، يبقى وسيلة لاجتذاب أنصار من خارج الحلقة الأمنية الضيقة، ثم تجنيدهم كشبيحة عند اللزوم.

يصلح تعاطي السوريين مع خبر انعقاد مؤتمر الحزب وانتخاب أمين عام “بوصفهما نكتة” كدلالة إضافية على حال التجربة القومية العربية بمجملها، لكن ركاكة ورثاثة التجربة القومية لم تفقد وظيفتها نهائياً، فهذا الثوب المليء بالشقوق والرتوق لا يزال لازماً لستر ما أمكن من تفاهة وتوحش سلطة المخابرات.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا