قراءةٌ مُتأنّية في خلفيّة ودلالات مرسوم الأسد بإلغاء منصب الإفتاء في سوريا

مع نشأة سوريا دولةً مستقلّة بعد انتهاء العهد العثمانيّ كان منصب الإفتاء حاضرًا منذ السّنوات الأولى، ففي عام 1918م عيّن الشّيخ محمّد عطا الكسم مفتيًا بقرار حكومة الملك فيصل ليتعاقب بعده المفتون على سوريا؛ الشّيخ محمد شكري الإسطواني ثم الشّيخ الطّبيب محمّد أبو اليسر عابدين وبعده الشّيخ عبد الرّزّاق الحمصي فالشّيخ أحمد كفتارو ليكون خاتمة المطاف عند الشّيخ أحمد بدر الدّين حسّون.

في عام 2002م عيّن أحمد حسّون مفتيًا لحلب، ليدخل معركةً شرسةً مع مدير أوقافها آنذاك محمّد صهيب الشّامي، وصلت أصداء المعركة بينهما إلى أرجاء سوريا وكان النظام سعيدًا برؤية هذا الاستقطاب والتعارك الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى التعارك بالأيدي بين التلاميذ نصرةً لمشايخهم وبحضورهم في أحيان عديدة.

جذور العداء بين أحمد حسّون ومحمّد عبد الستّار السيّد وأثره في المرسوم

وبعد وفاة الشّيخ أحمد كفتارو في أيلول “سبتمبر” من عام 2004م شغر منصب الإفتاء وبقي أكثر من سنةٍ محلّ معارك خفيّة فيمن يحظى به ويناله، وهذه المعارك كانت لها أبعاد مناطقيّة من جهة وأبعاد مدرسيّة وانتمائيّة من جهةٍ ثانية، وكان من أشدّ المحاربين لحسّون للحيلولة دون بلوغه منصب الإفتاء الدّكتور محمّد عبد الستّار السيّد الذي كان آنذاك معاونًا لوزير الأوقاف، ولكنّه كان الشخصيّة الأقوى في الوزارة، وفي النّهاية نجح أحمد حسّون في أن يحظى بثقة بشّار الأسد ليغدو مفتيًا لسوريا في منتصف تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 2005م.

محمّد عبد الستّار السيّد الذي عيّن معاونًا لوزير الأوقاف عام 2002م ثمّ غدا وزيرًا للأوقاف عام 2007م تعود جذور العداء بينه وبين أحمد حسّون إلى عام 2002م حينَ عيّن حسّون مفتيًا لحلب، وكان محمّد عبد الستّار السيّد مناصرًا لمدير الأوقاف محمّد صهيب الشّامي وساعيًّا في إفشال مساعي حسّون، لكنّ نفوذ حسّون الأمني كان أقوى وارتباطاته كانت أكثر تأثيرًا.

وقد ظهرت هذه العداوة للعلن بشكل فجّ منذ عام 2007م وهي السّنة التي تولّى فيها “السيد” وزارة الأوقاف، وكانت عداوتهما ظاهرةً لا تخطئها عينُ متابع، وقد انحازت المشيخة في عمومها لصفّ وزير الأوقاف لاعتبارين؛ قوّته ونفوذه وكونه المسؤول الإداريّ المباشر عنهم بخلاف حسّون، ولما يتمتع به حسّون من بغض ونفور الوسط المشيخيّ منه.

إنّ التحليل القائم على أنّ المرسوم الذي صدر من بشّار الأسد بإلغاء منصب الإفتاء جاء نتيجة للعداء بين الوزير محمّد عبد الستار السيد وأحمد حسّون البعيد النّجعة؛ فالعداء والمعركة بينهما لم تتوقّف منذ أكثر من عشرين عامًا وكانت تجري على عين النّظام ومباركة أجهزته الأمنيّة، ثمّ إنّ النظام لا يتخذ هذا النوع من القرارات انتصارًا لأحد موظفيه على الآخر فجميعهم عنده في كفّةٍ واحدة وقيمةٍ واحدة؛ هذا إن وجدت القيمة من حيثُ الأصل.

وهنا لا بدّ من القول: إنّ النّظام يعلم بل يرعى الفساد الذي يغرق فيه القائمون على المؤسسة الدّينيّة في سوريا، فليس خافيًا على أحد فضلًا عن أن يكون خافيًا على النظام حجم الفساد المالي وغير المالي الذي يغرق فيه كل من أحمد حسون ومحمد عبد الستّار السيّد، وما لديهما من علاقات غير سويّة داخليّة أو خارج الحدود، لكنّه يمسك بخيوط ذلك كلّه ليستخدمه في الوقت المناسب.

فأحمد حسّون من الشّخصيّات التي لديها نهَم غير عادي للمال والثراء والنفوذ لدى الأثرياء والأغنياء، كما أنّه حاول مدّ بعض أذرعه إلى بعض المؤسسات الدّوليّة كالاتحاد الأوروبيّ وغضّ النظام طرفه في إشارة موافقة على ذلك، لكنّ هذا لا يعني أنه لن يكون موضع محاسبة ومساءلة إن أراد النظام ذلك.

لكنّ ما فشل فيه حسّون فشلًا ذريعًا هو تكوين حاضنةٍ شرعيّة خاصة به، فهو ليس شيخ جماعة، ومريدوه في جامع آمنة انفضوا عنه وانفضّ عنهم عقب تولّيه الإفتاء العام، فهو إذن مكشوف الظّهر في الوسط الدّيني ولا قوّة له إلّا بمقدار ار تباطاته المخابراتيّة.

هل مرسوم بشّار الأسد يقصد منه عزل المفتي أحمد حسّون؟

ما إن صدر المرسوم المرسوم التشريعي رقم 28 بتاريخ 15 / 11 / 2021م حتى غطت موجةٌ من الشّماتة وسائل التواصل الاجتماعي، وتداول الكتّاب خبرًا عن مرسوم بإقالة أحمد حسّون من منصب الإفتاء، وفي الحقيقة هذا نوعٌ من الالتفات عن حقيقة المرسوم الذي صدر، فليسَ في المرسوم ما ينصّ على عزل أحمد حسّون من منصب الإفتاء، ثمّ إنّ عزل المفتي لا يكون بمرسوم تشريعي بل بقرار وزاري، وإنّ اختزال الهدف من المرسوم التشريعيّ في أنّه صدر لعزل أحمد حسّون من منصب الإفتاء هو اختزالٌ للمشهد وتفسيرٌ بعيدٌ عن إدراك حقيقة الصّورة.

إنّ أحمد حسّون الذي بدأت رحلة تهميشه منذ أكثر من ثلاث سنوات ليسَ بحاجةٍ إلى مرسوم بإلغاء منصب المفتي لعزله؛ فهو أقل من ذلك بكثير، فليسَ له ظهيرٌ شعبيّ ولا حضور ذو طبيعة مرجعيّة في الشّارع السّوريّ، كما أنّه ليس شيخ جماعة يمكن لها أن تُحدث أيّ نوع من الاضطراب في حال عزله.

عزل أحمد حسّون عن الإفتاء لم يأت بقرار إقالة ولم ينصّ المرسوم التشريعيّ عليه، بل هو لازمٌ من لوازم المرسوم، وهذا يستدعي منّا التوقّف مليًّا مع تفاصيل المرسوم بعيدًا عن التفسيرات العاطفيّة أو الاختزالات الضيّقة.

مرجعيّة المذهب السنّي في مهبّ الرّيح

لا ينصّ المرسوم التشريعي على إلغاء منصب المفتي العام فحسب بل إلغاء منصب مفتي المحافظات والمدن، فسوريا بعد اليوم للمرّة الأولى في تاريخها منذ الاستقلال من دون منصب الإفتاء لسوريا ومحافظاتها ومدنها.

قد يبدو الأمرُ عاديًّا في ظلّ دولة الاستبداد الأسديّة، بل لا قيمة له، لكنّ هذا القرار صاحَبَه قرار آخر بتوسيع صلاحيات المجلس العلمي الفقهي الذي أُسِّس عام 2018م في تعبيرٍ واضح عن الهيمنة الإيرانيّة على المؤسّسة الدّينيّة وكسر التمثيل السنيّ لمرجعيّة الإفتاء.

والمجلس العلمي الفقهي يضمّ رجال دين من الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، ففيه أعضاء من السنّة، ومن مراجع الشّيعة الإماميّة، ومشايخ العقل الدروز، ومشايخ العلويين النصيريّين، والإسماعيليين، ومن البطاركة المسيحيين.

المرسوم التّشريعي الأخير أضاف إلى المجلس الفقهي بعض التطعيم الدّيكوريّ من شخصيّات ذات صبغة شرعيّة مع تأكيده على وجود أعضاء من المذاهب جميعِها، وهنا هو لا يقصد المذاهب الفقهيّة بل للتّأكيد على وجود المرجعيّات الشيعيّة بوصفها مذهبًا ومرجعيّات الطوائف الأخرى بوصفها مذاهب.

وقد جاء في نصّ المرسوم التشريعي: “يشكل في الوزارة مجلس يسمّى “المجلس العلمي الفقهي” على النحو الآتي: الوزير رئيسًا، معاونا الوزير عضوان، رئيس اتحاد علماء بلاد الشام عضوًا، القاضي الشرعي الأول بدمشق عضوًا، ثلاثون عالمًا من كبار العلماء في سورية ممثلين عن المذاهب كافة أعضاء، ممثل عن الأئمة الشباب عضواً، خمس من عالمات القرآن الكريم أعضاءً، ممثل عن جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية عضوًا، مُمثِّلان اثنان عن كليَّات الشريعة في الجامعات الحكومية”

وتكمن مشكلة كبرى في أن ينصّ المرسوم التّشريعي على إسناد مهمّة الإفتاء لهذا المجلس، فقد جاء في المرسوم التشريعي: ” تضاف إلى مهام المجلس العلمي الفقهي … إصدار الفتاوى المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها”

إنّ وجود المفتي العام في أيّة دولة ومفتي المحافظة والمدينة هو من يحدّد مرجعيّتها الشرعيّة عادة، وهذا من بديهيّات المسائل، فإلغاء هذا المنصب وتحويله إلى مؤسّسة متعددة المرجعيّات تكون المرجعيّة السنيّة أو المذهب السنيّ هو أحدها ومجرّد عضو فيها؛ فهذا يعني أنّ سنيّة الدولة كما هو منصوص عليه في القوانين المختلفة لا سيما قانون الأحوال الشخصيّة قد غدت في مهبّ الرّيح، وهذا المرسوم هو إلغاء تامّ لمرجعيّة المذهب السنيّ في الفتوى وقوانين الوقف وقوانين الأحوال الشخصيّة في سوريا.

إنّ هذا المرسوم يدلّ إضافةً إلى إلغاء مرجعيّة المذهب السنيّ في الفتوى والقوانين على تمدّد المرجعيّة الشيعيّة لتغدوَ مرجعيّة رسميّة تتحرّك في الواقع السوريّ بقوّة القانون وتحضر في كلّ المحافل الإفتائيّة والقانونيّة بوصفها مرجعيّة رسميّة منصوص عليها في القانون.

وتمدّدها هذا يعني التّغلغل في القوانين من جهة، وفي الواقع الاجتماعيّ من خلال الفتاوى التي سيصدرها ممثلو المرجعيّات الناشطون في مختلف المحافظات من جهةٍ أخرى، وهذا انعكاسٌ للتغوّل الإيرانيّ على المؤسسات الشرعيّة والقانونيّة التي تخضع لمرجعيّة المذهب السنّي مما ينبئ أنّنا أمام مرحلة بالغة الخطورة من المحو الهويّاتي بعد التغيير الديمغرافي الذي جرى على قدم وساق خلال السّنوات العشر الأخيرة.

إنّ إسناد مهمّة الإفتاء في سوريا للمذاهب والطوائف المتعدّدة بهذا الشكل لم يحدث منذ بداية دخول الإسلام إلى سوريا إلى اليوم، وهو إعلان رسميّ أنّ السنّة في سوريا لم يعودوا هم الأكثريّة بل هم مجرّد طائفة من الطوائف الأخرى سواءً بسواء.

القضاء الشرعي في خطر

مما لم يلتفت له كثيرون في المرسوم التشريعي الأخير هو ضمّ القاضي الشرعي الأوّل إلى المجلس العلمي الفقهي بوصفه عضوًا فيه، وهي سابقةٌ في إخضاع القضاء لسلطة تنفيذيّة، وتنافي أبسط مبدأ يقتضي فصل السلطات.

بل إنّ الأمر بلغ أن يأخذ المجلس العلمي الفقهي أحد أهمّ أدوار القاضي الشرعي؛ إذ ينصّ المرسوم التشريعي في بيان مهامّ المجلس على: “تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلّة وإثباتها وإعلان ما يترتّب على ذلك من أحكام فقهيّة متصلة بالعبادات والشّعائر الدّينية الإسلاميّة”

ونعلم خطورة الأمر حين نعلم أنّ هناك خلافًا جذريًّا في منهجيّة إثبات الأهلّة لا سيما هلال رمضان وهلال شوّال بين المرجعيّة السنيّة والمرجعيّة الشّيعيّة، فهل ستصوم سوريا بعد اليوم وتفطر على منهج الوليّ الفقيه؟

ولكنّ الخطورة الأكبر هي في ترسيخ تبعيّة القضاء الشرعيّ للمجلس العلمي الفقهي، وإذا علمنا أنّ القضاء الشرعيّ يحتكم إلى مرجعيّة الفقه الإسلامي على المذهب السنّي في قوانين الأحوال الشخصية في سوريا، فهذا يعني أنّ قانون الأحوال الشخصيّة الذي فشلت محاولات تغييره على مدى عقود مضت غدا اليوم سهلَ المنال للتغيير في مرجعيّته وأحكامه بشكلٍ جذريّ.

ثمّ ماذا؟!

يمكننا القول: إنّ المرسوم المرسوم التشريعي رقم 28 تاريخ 15 / 11 / 2021م هو أخطر مرسومٍ يصدره بشّار الأسد فيما يتعلّق بهويّة الدولة ومرجعيّتها الشرعيّة والفقهيّة منذ بداية تولّيه السلطة حتّى اليوم.

وهذا يستدعي من مؤسسات العلماء السوريّة بالدّرجة الأولى التفكير الجادّ في إيجاد البدائل التي تحاول سدّ شيءٍ من الآثار السلبيّة التي ستترتّب على هذا المرسوم على مستوى هويّة القوانين والتشريعات وهويّة المجتمع السّوريّ.

وإنّ التعاطي بلا مبالاة مع هذا المرسوم يعني أنّنا أمام عمليّة محو هويّاتيّ وتغيير مرجعيّ قد يصعب تغييره في زمن يسيرٍ ولو زال النظام وزالت قبضته وسلطته.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا