“قلق” الصحة الإنجابية..نساء حوامل وأمهات سوريات في دوامة الهشاشة الصحية

بين خيمتها في بلدة كفرعروق ومشفى كللي بريف إدلب الشمالي، تتنقل رائدة الرشيد حاملة معها هموماً خلّفتها الجرثومة التي أصابتها حين كانت حاملاً، والتي لا تزال ترافقها إلى اليوم، لتكون بذلك صورة مصغرة عن معاناة أكبر تواجهها نساء حوامل في شمال غرب سورية.

وباستثناء مصاريف العلاج، التي أسهبت رائدة بالحديث عنها لـ”السورية نت”، كان لبُعد المسافات بين مكان الإقامة والمراكز الطبية وسوء شبكة المواصلات ووضعف الرعاية الصحية اللازمة، حصة كبيرة من معاناة رائدة والكثيرات من سكان منطقتها.

وهي عوامل تركت آثاراً لم تستطع بعض السيدات تجاوزها، حتى بعد الولادة، لما خلفته من آثار على صحة الأجنّة والأطفال.

تقول الإحصائيات الأممية إن امرأة واحدة تموت كل دقيقتين بسبب الحمل أو الولادة، ما يشير إلى تراجع كبير في صحة الأم حول العالم، وعدم قدرتها على الوصول إلى الرعاية الصحية اللازمة.

وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، فإن وفيات الأمهات لا تزال تتركز إلى حد كبير في أفقر أجزاء العالم، وفي البلدان المتأثرة بالصراعات.

وينطبق ذلك على مناطق شمال غرب سورية، التي تشهد ضعفاً في المنظومة الصحية بعد 12 عاماً من القصف والعمليات العسكرية والنزوح، وظروفاً “غير مواتية” بالنسبة للنساء الحوامل، خاصة في المخيمات.

يلخص هذا الملف أبرز ما تعانيه السيدات الحوامل والأمهات في هذه البقعة الجغرافية، ويناقش على لسان خبراء ومعنيين أسباب هذه المعاناة، والتحديات التي تواجهها وسبل التخفيف منها.

القصة بلسان سيدات

في زاوية صغيرة ضمن المشهد الكامل لانهيار القطاع الطبي في الشمال السوري، يقبع ملف الصحة الإنجابية، والذي تشعّبت أبعاده وتركت آثاراً على صحة الحوامل والأجنّة والأمهات وأطفالهن.

تقول رائدة الرشيد، وهي مهجّرة من بلدة التح جنوبي إدلب وتقيم في مخيم “الصالحين” بريف المحافظة الشمالي، إنها عانت كثيراً خلال فترة حملها بسبب إصابتها بجرثومة، استمرت معها حتى بعد الولادة.

إذ لا تزال رائدة تتردد إلى مشفى عام وعيادات خاصة في بلدة كللي لتلقي العلاج، وتضطر بذلك لقطع مسافات كبيرة شهرياً بسبب بُعد المنطقة عن المخيم الذي تسكن فيه.

ويترتب على ذلك مصاريف مواصلات، تعتبر رائدة أنها “بغنى عنها”، في ظل الظروف المعيشية وظروف التهجير التي تعاني منها أسرتها.

وباستثناء المسافة تقول رائدة “إن إصابتي بالجرثومة تكلّفني شهرياً ما يقارب 70 دولاراً، تكاليف علاج، وهي على نفقتنا الشخصية، لأن المستشفى تقدّم استشارات ومعاينات، لكن لا تّقدم الأدوية المجّانية، خاصة بالنسبة لحالتي”.

أما فاطمة، التي عانت من حالات إجهاض متكررة بسبب “جرثومة الحمل”، تعيش حالياً ظروفاً “حساسة” كما تقول، كونها حامل في شهرها الخامس.

وبسبب حساسية وضعها، تتردد فاطمة بشكل دوري على عيادة طبيبة نسائية في منطقة معرة مصرين بريف إدلب، مع حرصها “الشديد” على تناول الأدوية والفيتامينات، التي تُعرف محلياً باسم “المقوّيات”، بموجب وصفة طبية.

تقول فاطمة لـ”السورية نت”: “تلقيت الأدوية على فترة ثلاثة أشهر، كانت تكاليف العلاج بين أدوية وعيادة الطبيبة تصل إلى 50 دولاراً كل 15 يوماً”.

حديث فاطمة عن تلك التكاليف جاء بعد تلميحها لوضع زوجها المادي، إذ اختصرت الحالة بقولها: “زوجي مدرّس ودخله محدود جداً”.

وحول إمكانية وصولها إلى مراكز مجّانية، تقول إن “المستشفيات والمراكز المجانية المنتشرة تقدّم استشارة مجانية أو معاينة، بينما بعض الأدوية لا توفّرها، لذلك اختصرت الطريق إلى عيادة خاصة”.

حالياً تفكّر فاطمة أن تضع طفلها في مستشفى خاص لتتلقى “اهتماماً أفضل”، لكن تكاليف المستشفى الخاص “مرتفعة جداً” بالنسبة لها، إذ تصل الكلفة الجمالية للولادة وما بعدها إلى 400 دولار أمريكي.

آثار طالت الأمهات والأطفال

ترافق سيدات شمال غرب سورية في حملهن مشكلات صحية أخرى، بالإضافة إلى المشكلات السابقة التي تحدثت عنها كل من رائدة وفاطمة.

فنقص التغذية وفقر الدم والولادات المبكرة والإجهاض المتكرر، كلها حالات تشير إلى معاناة يجب أن تحظى باهتمام أكبر من قبل المنظمات الإنسانية العاملة في الشمال السوري.

وتُظهر بيانات الأمم المتحدة لعام 2021 أن واحداً من كل ثمانية أطفال في سورية يعاني من التقزم، بسبب سوء الرعاية الصحية أثناء الحمل، إلى جانب انعدام الأمن الغذائي.

بينما تظهر الأمهات الحوامل والمرضعات مستويات قياسية من الهزال الحاد، وفق تقرير لبرنامج الأغذية العالمي في مايو/ أيار 2022.

وبالتالي، فإن سوء التغذية والهزال الحاد سببان كافيان لحرمان حديثي الولادة من الرضاعة الطبيعية، ما يحرمهم أيضاً من المغذيات الضرورية والتواصل المباشر مع الأم.

وتلخص الطبيبة إكرام حبوش أبرز الأعراض الصحية التي تواجهها السيدات الحوامل في منطقة شمال غرب سورية، بـ”انخفاض مستوى التغذية وبالتالي العديد من الاختلاطات على الأم والطفل وأهمها فقر الدم، إلى جانب الولادات المبكّرة واختلاطاتها”.

وتقول حبّوش لـ “السورية نت”، وهي مديرة مستشفى الأمومة (سامز) في مدينة إدلب، إنّ “المستشفى يقدّم خدمات المراقبة ما قبل الولادة، وما بعدها، إلى جانب جميع خدمات الصحة الإنجابية والعمليات الجراحية النسائية من استئصال رحم واستئصال مبيض، وأورام ليفية، وعمليات التنظير التشخيصي والعلاجي”.

وبالرغم من ذلك، تتحدث حبوّش عن غياب الثقافة التوعوية لدى السكّان، بقولها: “نعاني من انخفاض مستوى الثقافة لضرورة المتابعة في المستشفيات، قبل الولادة وبعدها، إلى جانب صعوبة وضع السيدات بعد الولادة لعدم مراجعتهنّ المستشفى”.

وتبلغ أعداد الولادات في مستشفى الأمومة (سامز) في إدلب، حوالي 500 حالة ولادة تقريباً، شهرياً، وفق حبوش.

“جرثومة الحمل” وبُعد المسافة

من جانبها، قالت مسؤولة الصحة الإنجابية في مديرية صحة إدلب، بتول الخضر، إن صعوبة الوصول للمراكز الصحية، من أبرز التحديات التي تواجهها السيدات الحوامل شمال غرب سورية.

وتضيف الخضر في حديثها لـ “السورية نت” أن هذه التحديات تتعلق بالسيدات المقيمات في مخيمات النزوح، خاصة العشوائية منها والتي تقع في مناطق جبلية نائية وبعيدة عن مركز المدن والبلدات.

وبحسب الخضر فإن الخطر هنا يزيد عند وجود حالات إسعافية أو حالات ولادة.

وتقول: “لا توجد مشكلة في حال تأخرت السيدة عن موعد الفحص الروتيني، لكن بعض الحالات تكون إسعافية أو حالة ولادة، ما قد يعرض السيدة لولادة غير نظيفة، وبجبرها على الولادة داخل الخيمة ضمن ظروف غير مواتية”.

وتحدثت الخضر عن تحديات أخرى تتمثل بنقص الدعم المقدم لقطاع الصحة الإنجابية، خاصة خلال السنوات القليلة الماضية.

مشيرة إلى أنه “في السابق تم دعم هذا القطاع بشكل جيد، لكن اليوم توجد بعض الاحتياجات التي يجب أن نراجعها مع المنظمات الداعمة”.

الصحة الإنجابية
مسؤولة الصحة الإنجابية في مديرية صحة إدلب بتول الخضر

إلى جانب ذلك، تعتبر “جرثومة الحمل” هاجساً أمام النساء الحوامل في المنطقة، بعد انتشارها مؤخراً بشكل ملحوظ، حسبما روت سيدات حوامل لـ “السورية نت”، وسط مخاوف من تسببها بإجهاضات متكررة.

إلا أن مسؤولة الصحة الإنجابية في إدلب،  قالت إن هذه الجرثومة تسبب الإجهاض لمرة واحدة فقط، ثم يصبح لدى الحامل مناعة منها.

وأضافت: “أدوية الجرثومة من الأدوية غير الروتينية، ولا تعطى للحوامل حتى وإن تعرضن لاجهاض سابق”.

وحول أبرز المناطق التي تفتقر للرعاية بهذا المجال تقول مسؤولة الصحة الإنجابية: “تم توقيف الدعم عن مشفى سلقين للتوليد بريف إدلب الغربي، ونؤكد بكل اجتماع على ضرورة دعم هذا المشفى”.

كما تعتبر منطقة حارم بريف إدلب الشمالي من أشد المناطق التي تتفاقم فيها الاحتياجات الصحية، بما فيها الصحة الإنجابية، كونها مكتظة بالسكان، بحسب الخضر.

وكذلك تفتقر منطقة أريحا بريف إدلب الجنوبي للرعاية الصحية اللازمة، لكن تم دعمها من قبل المنظمات مؤخراً، وفق مسؤولة الصحة الإنجابية بإدلب.

تحديات فاقمها الزلزال

في ظل معاناة السنوات الـ12 الماضية، جاءت كارثة زلزال فبراير/ شباط الماضي لتعمق التدهور الحاصل في قطاع الصحة الإنجابية شمال غرب سورية، وفق تقارير دولية، حذرت من “آثار سلبية” على صحة الحوامل والأمهات وأطفالهن.

وبحسب تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان فإن الزلزال ترك نحو 133 ألف امرأة حامل، فضلاً عن الأمهات المرضعات، يكافحن للحصول على الرعاية الصحية الأساسية والدعم والإمدادات.

وأضاف التقرير أن 6600 امرأة منهن سيعانين من مضاعفات الحمل والولادة بسبب الزلزال.

كما تحدث عن ارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد بين النساء الحوامل والمرضعات “حيث يطرق الجوع الباب في أكثر من نصف البلاد”.

وبهذا الصدد، تحدثت مسؤولة الصحة الإنجابية، بتول الخضر، عن تسبب الزلزال بحالات ولادة مبكرة نتيجة الخوف، وكذلك إجهاضات لنساء في أول أشهر الحمل.

وأضافت: “زادت نسبة القيصرية الإسعافية بعد الزلزال بسبب انفكاك المشيمة نتيجة الخوف أو الرض على البطن”.

وبحسب إحصائيات مديرية صحة إدلب فإن ثلاث مستشفيات خرجت عن الخدمة شمال غرب سورية بسبب الزلزال، وأربعة أخريات تضررت وتصدعت جدرانها لكنها لا تزال في الخدمة.

ومع ذلك، تحدثت الخضر عن وجود 24 مشفى في المنطقة تقدم خدمات الصحة الإنجابية، و13 مشفى تقدم خدمات التوليد الطبيعي.

وأضافت: “توجد في منطقتنا خدمات التوليد الطبيعي والقيصري، وخدمات تنظيم الأسرة، واستشارات ما قبل الولادة وما بعدها، وخدمات حديثي الولادة من حاضنات ومنافس”.

وتسجل مناطق شمال غرب سورية شهرياً 1400 ولادة وسطياً، بحسب الخضر، تشمل المستشفيات والمراكز العامة.

لافتةً إلى أن “هذه الإحصائيات لا تشمل المراكز والمستشفيات الخاصة التي لا تصلنا منها إحصائيات، وكذلك لا تشمل الولادات المنزلية”.

“امرأة تموت كل دقيقتين”

تشير تقارير دولية إلى “تراجع كبير” بصحة الأم والحامل في جميع أنحاء العالم، وسط “تفاوتات صارخة” بإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية.

إلا أن وفيات الأمهات تتركز بصورة أكبر في البلدان المتأثرة بالصراعات، ومن بينها سورية، وفي أفقر أجزاء العالم، وفق تقرير صادر عن وكالات الأمم المتحدة، في 23 فبراير/ شباط الماضي.

وبحسب التقرير، فإن امرأة واحدة تموت كل دقيقتين أثناء الحمل أو الولادة، متحدثاً عن تراجع مقلق في صحة المرأة خلال السنوات الأخيرة، حيث زادت وفيات الأمهات أو ظلت كما هي دون تغيير في جميع أقاليم العالم تقريباً.

وتعرّف وفاة الأم بأنها “وفاة بسبب المضاعفات المتعلقة بالحمل أو الولادة، وتحدث عندما تكون المرأة حاملاً، أو خلال ستة أسابيع من نهاية الحمل”.

ومن الأسباب الرئيسية لوفيات الأمهات “النزيف الحاد وارتفاع ضغط الدم، والإصابة بالعدوى المرتبطة بالحمل، والمضاعفات الناجمة عن الإجهاض غير الآمن والاعتلالات الموجودة أصلاً التي يمكن أن تتفاقم بسبب الحمل”.

وورد في التقرير أن “نقص تمويل أنظمة الرعاية الصحية الأولية، ونقص العاملين المدربين في مجال الرعاية الصحية، وضعف سلاسل توريد المنتجات الطبية تهدد إحراز تقدم” ضمن قطاع الصحة الإنجابية.

من جانبه، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدحانوم غيبرييسوس، إن الإحصائيات السابقة تكشف عن الحاجة الملحة لضمان حصول كل امرأة وفتاة على الخدمات الصحية الحيوية قبل الولادة وخلالها وبعدها، وأن تتمكن كلٌ منهن من ممارسة حقوقها الإنجابية كاملاً.

وأضاف: “من المحزن أن الحمل لا يزال يمثل تجربة محفوفة بمخاطر جمّة بالنسبة لملايين من النساء في جميع أنحاء العالم ممن يحتجن إلى رعاية صحية عالية الجودة”.

فيما اعتبرت المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل، أن الإنصاف في الرعاية الصحية “يتيح لكل أم، بصرف النظر عمن هي وأين تكون، فرصة متكافئة لولادة آمنة والتمتع في مقبل أيامها بصحة موفورة وسط أسرتها”.

غياب الوعي يعمق الشرخ

قياس مدى خطر العوامل السابقة، يرتبط أيضاً بمدى وعي المجتمع، والنساء أنفسهن، لأهمية تلقي المرأة الحامل الرعاية الصحية اللازمة، خلال فترة الحمل وبعد الولادة بأسابيع.

إذ تشير الأرقام الأممية إلى أن ثلث النساء حول العالم لا يتلقين ولو نصف الفحوص الثمانية الموصى بها قبل الولادة، كما لا يتلقين رعاية ما بعد الولادة الأساسية.

في حين أن حوالي 270 مليون امرأة لا تتاح لهن الوسائل الحديثة لتنظيم الأسرة.

وبحسب تقرير وكالات الأمم المتحدة، في شباط الماضي، فإن “التفاوت المرتبط بالدخل أو التعليم أو العرق.. يزيد من المخاطر التي تتعرض لها النساء الحوامل المهمشات”.

وبهذا الصدد، تحدثت الطبيبة إكرام حبوش لـ”السورية نت” عن تراجع الوعي الثقافي في شمال غرب سورية لمدى أهمية تلقي النساء الحوامل والأمهات الرعاية اللازمة.

فيما تحدثت مسؤولة الصحة الإنجابية في إدلب، بتول الخضر، عن برامج ومشاريع تنفذها مديرية الصحة لرفع سوية الوعي بهذا المجال.

وقالت لـ”السورية نت”، “قمنا بالتنسيق مع المنظمات بتدريب 80% من الكادر العامل في مجال الصحة الإنجابية، على برامج المشورة الصحية للحامل، تتضمن التخطيط للولادة وتحديد المشفى الأقرب والمستلزمات الواجب اصطحابها”.

وأشارت الخضر لوجود برنامج اسمه “صحة الأسرة”، يشمل تنظيم الأسرة ورعاية السيدات الحوامل، ورعاية ما بعد الولادة، والتنبيه لعوامل الخطورة، إلى جانب تحديد الأوقات الواجب فيها زيارة المركز الصحي، وتحديد المراكز الأقرب لمكان سكن النساء الحوامل.

ولفتت إلى أن هذا البرنامج بتم بالتنسيق بين فرق الصحة المجتمعية وفرق الصحة الإنجابية.

وفي ختام الملف، وجب التنويه إلى “الحاجة الملحة” لتوجيه الأنظار نحو هشاشة قطاع الصحة الإنجابية، الذي يعتبر جزءاً من منظومة صحية تعاني من الانهيار في شمال غرب سورية، منذ سنوات.

إلى جانب التركيز على رفع الوعي المجتمعي والطبي لأهمية صحة النساء الحوامل والمرضعات، والتنبيه لضرورة وعي النساء أنفسهن بتلقي الرعاية اللازمة خلال الحمل وبعد الولادة.

المصدر السورية نت
قد يعجبك أيضا