كأن بوتين يرى أوكرانيا كما يرى الأسد لبنان

ما يخفف من وطأة أخبار الحرب الروسية على أوكرانيا وأهوالها، هو ذلك الدفق الهائل من المعلومات والوثائق والأدلة المتداولة حالياً على ما كان بين البلدين من روابط وثيقة، يمكن العثور عليها في العرق والدين وفي السياسة والاقتصاد وفي الأدب والرسم والموسيقى..ما يجيز تصنيف قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالغزو، كجريمة ضد التاريخ، بقدر ما هو جريمة ضد الانسانية.

صحيح ان هذا القرار لم يأت من العدم، بل سبقته سنوات من النفور والتباعد والخصام، لكن العداء الذي تنتجه آلة الحرب الروسية الوحشية، في سعيها الراهن لإبادة دولة اوكرانيا وشعبها، يوازي عملية محو لتلك الفصول الغنية والشيقة من التاريخ الروسي الاوكراني المشترك، الذي ظل موحداً، طوال أكثر من 12 قرناً، يتناوب سكان الحواضر الروسية والاوكرانية الكبرى على كتابته بإنتظام وإنسجام..

في اللغة السياسية المحكية الآن بين موسكو وكييف رواسب من هذا التاريخ، وملامح رغبة دفينة في تجنب القطيعة النهائية، بالرغم من الاستعلاء او “الاستكبار” الروسي وبالرغم من الاستنفار الاوكراني للعصبية الوطنية..وهو ما أذهل بوتين الذي كان يتوقع ، وما زال يترقب، أن يستسلم الاوكران قبل أن يحل الدمار الشامل في بلدهم..وكان وما زال يردد، ومعه أغلب الروس أن ما قدمته روسيا لشقيقتهم الصغرى، أكبر وأهم بكثير مما قدمته لأي دولة شقيقة أو مجاورة على مدى العصور القيصرية والسوفياتية.. وهو صحيح الى حد بعيد.

وليس مجرد تعبير عن جنون العظمة أو الهذيان أو النفاق أن يعمد بوتين بالفعل الى فتح ممرات انسانية للاجئين الاوكران، باتجاه روسيا او بيلاروسيا، وليس فقط باتجاه بولندا او مولدوفا: الاخ الاكبر لم يفقد الأمل كما يبدو في أن يستجيب الفارون الاوكران من آلة حربه، لبادرته الانسانية وأن يعودوا الى “حضن” الوطن الروسي الأم، المستعد لاحتوائهم من جديد، كشعب واحد في دولتين أو ربما في دولة واحدة، من دون الحاجة الى مزاعم اعلان الحياد وإلقاء السلاح والتخلص من النازية الجديدة.

الغوص في ذلك التاريخ الروسي الاوكراني المشترك، (بل الموحد)، تشوبه شائبة واحدة، تعطل متعة القراءة والمتابعة، وهو يثير بصراحة، غصة لبنانية لا يمكن إخفاؤها ، إزاء هذا التشابه، أو حتى التطابق بين ذلك التاريخ، وبين التاريخ اللبناني السوري، في زمنه الغابر كما في وجهه المعاصر : أليس بوتين وروسيا اليوم، هما مثيل نظام سوريا الاسدي الذي تعامل مع لبنان كبقعة متمردة منفصلة عن التاريخ المشترك إياه، الذي يعود أيضا الى قرون مضت لم يكن فيها ذكر ولا أساس للكيان اللبناني، إلا في الكتب الدينية.

في بعض الاحيان، بدا بوتين في اتهاماته للاوكران بالعمالة والخيانة والنازية، وكأنه يكرر حرفياً ما كان النظام الاسدي يقوله بحق لبنان واللبنانيين. كلاهما يعترف بشرعية الكيان المتمرد، الاوكراني او اللبناني، وبحدوده الدولية، لكنه لا يحتمل تكوين النظامين ولا تطلعاتهما المغايرة للتقاليد السائدة في كييف او في دمشق. وكلاهما إستخدم او يستخدم عنفاً مفرطاً، وتخريباً متعمداً، لاخضاع الاخ الاصغر للهيمنة، وردعه عن المضي في سبيله الخاص.

بعض المفردات الروسية والسورية يثير الدهشة، لاسيما منها تلك التي تنم عن الاحتقار والتشويه والتزييف للشعبين الاوكراني واللبناني، والتي توحي بأن النظامين في موسكو ودمشق لم يغفرا يوماً خطيئة الخروج الاوكراني واللبناني عن مظلة الاخ الاكبر.. حتى ولو كان ذلك الخروج على شكل مقاومة وطنية شعبية تاريخية فعلا، تحرم العاصمتينش الكبريين من ترف الممانعة والمفاوضة مع الاعداء، على مصالح الاخوين الصغيرين، ومن دون علمهما.

عذاب الشعب الاوكراني مع الاخ الروسي الاكبر ربما يفوق العذاب اللبناني مع الاخ السوري الاكبر. لكن تاريخاً جديداً لهذين الاخوين الظالمين يكتب الآن، وهو قد يكون متشابهاً، وقد يكون مستقبلهما واحداً.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا