كييف ترسم ملامح أزمة اقتصادية عالمية

كييف! المدينة الأوكرانية التي تجابه الدبابات والمدافع الروسية لا ترسم ملامح الخريطة الجيوسياسية على أعتاب أوروبا وحسب! بل ملامح أزمة اقتصادية عالمية تلوح في الأفق، فالاشتباكات العسكرية أرضاً وجواً على حدود كييف ليست أقلّ ضراوة من “الاشتباكات” الاقتصادية الجارية بين روسيا والعالم.

تسبب فرض حظر على واردات النفط والغاز الروسية من قبل الولايات المتحدة، إلى ارتفاع أسعار عقود النفط الآجلة إلى 130 دولار، أعلى مستوى منذ 13 عاماً، وإرسال حالة غموض وضبابية للأسواق المالية العالمية حول النقص في إمدادات الطاقة والغذاء في العالم، وهو ما أدخل أسواق الأسهم الآسيوية والأوروبية والأمريكية في موجة بيع لا يُعرف حدودها حتى الآن.

العقوبات بداية المشكلة

لا يعد إخراج روسيا من نظام “سويفت” الدولي للتعاملات المالية وفرض عقوبات قاسية على اقتصادها بداية حل الأزمة! بل أول عقدةٍ فيها، إذ تتموضع في مكانة مهمة من الاقتصاد العالمي ضمن سلاسل الإمداد العالمية في مواد الحبوب والنفط والمعادن تجعلها عنصراً مهماً ضمن صناعات كثيرة، عبر صادراتها المتمثلة بـ 4.7 مليون برميل نفط يومياً، و200 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، و29 مليون طن سنوياً من الغاز المسال، و18% من صادرات القمح عالمياً، والخامسة عالمياً في إنتاج الحديد.

انقطاع أو نقص الإمدادات، العرض، من روسيا للأسواق العالمية سواءً كان عمداً أو نتيجة عقوبات، كافٍ لصدم منحنى العرض في الأسواق وارتفاع الأسعار بشكل دراماتيكي، وخوض الاقتصاد العالمي غمار أزمة جديدة تضاف للأزمة التي رافقت انتشار فيروس “كورونا” من ارتفاع عام في معدلات البطالة وانقطاع في سلاسل التوريد من الصين وانخفاض في نسب التشغيل فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم لتلامس 7.5% في الولايات المتحدة الأمريكية وهو الأعلى منذ أربعة عقود.

وبقدر الأذى الذي سيطول روسيا واقتصادها من الحرب والعقوبات، سيتأذى الاقتصاد العالمي بذات القدر وربما أكثر، لأن اصطدام الطلب القوي بنقص مفاجئ في العرض، وسط أزمات موجودة بالفعل، قد يؤدي إلى ضغوط مباشرة (وبالأخص في الدول النامية) على الميزانيات العامة ومعدلات الدين والعجز الحكومي؛ إثر زيادة فاتورة دعم المواد الأساسية والواردات والأسر الفقيرة، فضلاً عن الصدمة التي ستلحقها بالبورصات إذا طرحت كميات كميرة من الأسهم دون أن تجد من يشتريها، وتجعل من صانعي السياسات الاقتصادية يكافحون لعدم وقوع اقتصاداتهم في الركود، إضافة لتعقيد مهمة البنوك المركزية في التخلص من الأموال السهلة التي ضخت بهدف معالجة المشاكل خلال فترة كورونا.

مع الإشارة هنا أن أي أزمة اقتصادية قادمة تختلف من حيث الأثر عن الأزمة التي ضربت العالم إبّان تفشي فيروس “كورونا” عام 2020 والإغلاق المفاجئ، إذ تعد الصين التي قادت أزمة “كورونا” ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم وهي قوة تصنيعية لديها ارتباطات كبيرة بسلاسل التوريد المعقّدة، فمعظم المنتجات تصدّر إلى العالم بعد تصنيعها في الصين، فضلاً عن كونها أكبر مستهلك في العالم للكثير من المنتجات، على خلاف روسيا التي تعد مورّداً رئيسياً للنفط والغاز والمواد الغذائية والتي يمكن إيجاد مصادر بديلة عنها لسد أي نقص حاصل في الأسواق. ومرةً أخرى تختلف عن الأزمة المالية في العام 2008 من حيث الشكل، فأزمة 2008 كانت من جانب الطلب فيما الأزمة الحالية من جانب العرض.

الآثار المباشرة: ارتفاع الأسعار

ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي سيزيد، بطبيعة الحال، من نبض التضخم العالمي مترافقاً مع انخفاض في معدلات النمو تاركاً البنوك المركزية في مواجهة سيناريو الـ stagflation(التضخم بموازاة ركود اقتصادي)، وعليه سيكون أمام البنوك المركزية الاعتماد على سياسة رفع أسعار الفائدة لامتصاص وكبح جماح الارتفاعات الحاصلة في الأسعار.

يتفاوت تأثر الدول وارتفاع الأسعار فيها على مدى اعتمادها على الواردات الروسية سواءً في مجال الطاقة أو الغذاء. يستورد الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 40% من الغاز الطبيعي و27% من النفط الخام من روسيا، وإضافة لكون الغاز يمثّل خُمس كهرباء أوروبا فإن 45% (في عام 2018) من الطاقة المستخدمة تذهب لتدفئة المنازل فضلاً عن الطهي، وانعكس ارتفاع أسعار الطاقة خلال الأيام الماضية على أسعار الغاز القياسية الأوروبية بنسبة 79% لتصل إلى 345 يورو لكل ميغاواط/ساعة، كما تتزايد المخاوف من عدم قدرة العائلات على دفع الفواتير أو الاختيار بين التدفئة والطعام، وهو ما يزيد من الأعباء على الحكومات الأوروبية في زيادة دعم العائلات غير القادرة على دفع الفواتير وتحمل عجوزات مالية. وبحسب بياناتGas Infrastructure Europe بلغت نسبة الغاز المخزّن 74% في أوروبا، مقارنة بهذا الوقت من العام الماضي عندما كانت 94%.

وسيزيد ارتفاع الأسعار المحموم في أسواق الطاقة من الضغوط المتزايدة على الاقتصاد التركي الذي يستورد 95% من واردات الطاقة من الخارج (55 مليار دولار) تعتمد فيه على الغاز الروسي بنسبة تقارب الـ33%، وتستقبل سياح روس (4.7 مليون سائح سنوياً) وأوكرانيين (2.1 مليون سائح سنوياً) وتستورد 9 ملايين طن قمح من روسيا بنسبة 65% و15% من أوكرانيا، وعلى الرغم من توفر البدائل إلا أن ارتفاع الأسعار سيلقي لا شك بظلال ثقيلة على فاتورة الواردات والميزان التجاري، علماً أن معدلات التضخم في الشهر الماضي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً عند 54%.

على الجانب الآخر تعد مصر، من أكثر الدول المتأثرة بالحرب الروسية الأوكرانية إثر ارتفاع أسعار الطاقة الذي سيضغط بدوره على الميزان التجاري وبالتالي على طلب النقد الأجنبي، ومن ثم فإن كلا البلدين تعدّان مصدراً رئيسياً للقمح لمصر بنحو 10 ملايين طن سنوياً، ما يجعلها تبحث عن مصادر بديلة ذو تكاليف أعلى، فضلاً عن الخسائر التي سيمنى بها قطاع السياحة.

أما الدول النفطية ستكون أفضل حالاً نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز ما يعوّض أي ارتفاع في أسعار السلع والخدمات التي تستورد معظمها من الدول الصناعية.

أخيراً، لا شك أن الأزمة الاقتصادية الحالية ستلقي بآثار سلبية على جميع الدول بشكل مباشر أو غير مباشر ولكن ما يثير الانتباه في هذه الآونة أن الأزمتين السابقتين في 2008 و2020 (كورونا) اعتمدت الولايات المتحدة لحلهما على فكرة “التيسير الكمي” لمعالجة جذورها، على اعتبار أنها أزمة في الطلب تقتضي تعزيز القدرة الشرائية للمستهلك والحؤول دون ارتفاع البطالة ونشل الشركات والمؤسسات من الإغلاق والإفلاس، أما الآن فربما يكون في سرعة إيجاد البديل وضمان سد النقص من دول صديقة للولايات المتحدة كالسعودية أو عدوة لها مثل فنزويلا وإيران، وحتى ذلك الوقت ستعاني جميع الدول بشكل متفاوت من الارتفاع العام في الأسعار.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا