لماذا لم تستسلم درعا البلد؟

لم تتوقف درعا البلد عن مقاومة الفرقة الرابعة وداعميها؛ الإيراني عسكرياً أو لوجستياً، والروسي الذي يفاوض وينقل شروط الاستسلام إلى الأهالي المحاصرين بعد تخليه عن ادعاء دور الضامن لتفاهم عام2018. حتى صباح يوم الاثنين صمدت درعا البلد بعد تعرضها منذ مساء السبت لأعنف محاولات الاقتحام، والتصعيد الجديد أتى بعد رفض مطالب ضباط الأسد بتهجير خمسين شاباً من درعا البلد، إضافة إلى الذين هُجّروا في الأيام السابقة، والذريعة المقدمة للتهجير هي مقاومة هؤلاء الشبان محاولات الاقتحام. بمعنى أن قوات الفرقة الرابعة، وفصائل إيرانية معها حسب أخبار شائعة جداً، تريد أن تقصف وتهاجم درعا البلد من دون مقاومة، وأن يستسلم الأهالي مع ترحيل الذين ارتكبوا “إثم” المقاومة.

بمعزل عمّا يمكن قوله عن شجاعة أولئك المحاصرين والممنوعين من الحصول على الغذاء والدواء، لا تستأنف درعا البلد ثورة يرى البعض أن شرارتها انطلقت منها، ولا تستأنف حرباً انفض داعموها “على نحو نهائي” في جبهة حوران قبل ثلاث سنوات. عليه، لا تنتظر درعا البلد انتفاضة السوريين انتصاراً لها، ولا تنتظر “الفزعة” بتعبير شعبي لطالما استُخدم قبل نحو عشر سنوات من دون التفكر في معناه ومدى ملاءمة المعنى لثورة. الأصوات التي خرجت تطالب بالفزعة كانت هذه المرة أكثر أمانة لمعناها، فطلبت الفزعة من أهالي حوران حصراً، يحدوها أمل تُضعفه المعرفة بأحوال ذوي القربى.

عن بعد، قليلة هي الأصوات المناصرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأقل منها الأصوات التي تطالب جهة ما بنصرة درعا، إذ لا عنوان محلياً لمطالبته ولا دولياً. هناك حالة من الخذلان التام، وقناعة بأن التفاوت الهائل بين إمكانيات المحاصَرين ومهاجميهم لا بد أن يتغلب على شجاعة أولئك اليائسين. التعويل الفعلي، إن كان من وجه واقعي له، يبقى على أن تتدخل الحسابات الخارجية لصالح الأهالي فتنجيهم من الأسوأ، وهو رجاء لم يبرز ما يسنده، بل تتضاءل احتمالاته “الشحيحة أصلاً” بتماهي المفاوض الروسي مع ضغوط شقيقيه الإيراني والأسدي.

بقليل من الواقعية “الفظة ربما”، لا قضية بالمعنى المتعارف عليه يدافع عنها اليوم أهالي درعا البلد، ولا يتجرأ مفرطٌ في ثوريته على مطالبتهم بالقتال، أو على لومهم إن استسلموا. المفاوضات بين الأهالي وضباط الأسد بوجود روسي محددة ببنود محلية، ومتعلقة إجمالاً بكيفية تنصل الأسد وإيران “بموافقة روسية على الأرجح” من اتفاقيات التسوية. التفاوض من قبل الأهالي هو على شروط الاستسلام، بينما يريده الأسد وطهران وموسكو استسلاماً غير مشروط على الإطلاق.

مثلاً من ضمن ما طلبه ضباط الأسد موافقة الأهالي، في صك استسلامهم، على دخول قوات الأسد وتفتيشها البيوت بذريعة التأكد من خلوها التام من السلاح. هذا البند يعني الحصول على موافقة مسبقة من الضحايا على التنكيل الذي ستمارسه تلك القوات التي يُفترض أنها ستفتش بحثاً عن السلاح، في حين أن هدفها الواضح منذ الآن استباحة حرمة البيوت وساكنيها. والحديث عن “حرمة البيوت” ليس فيه استعارة تقليدية، بل هي استباحة لحرمة البيوت وساكنيها بكافة المدلولات الحقوقية المعاصرة، وقد قدّمت قوات الأسد، ومنها شبيحة الفرقة الرابعة التي تحاصر الآن، نماذج لا تُحصى عن التنكيل بالأهالي بعد الاقتحامات، وكانت سرقة الممتلكات ومحتويات البيوت “التعفيش” أرقّ وألطف أنواع التنكيل.

مشكلة درعا الآن، وهذا في أصل القضية السورية عموماً، أن ما تهدف إليه الطغمة الحاكمة ليس تحقيق الانتصار على السوريين بالمعنى المتعارف عليه لكلمة نصر، سواء أكان غلبة سياسية لطرف داخلي على آخر أو انتصاراً لمحتل خارجي. الاستسلام، وفق جميع القوانين والأعراف، هو حق للضعيف، ومن ثم يرتّب له حقوقاً على المنتصر. بموجب ذلك، كان بعض المفكرين المعاصرين قد تفاءل بالوصول إلى عهد الحروب الذكية التي يستسلم فيها الطرف الأضعف قبل إطلاق النار، إذ يرى خسارته المقبلة بموجب ميزان القوى القائم. بالطبع، هذا تفكير لا يأخذ في الحسبان عدواً منتصراً مثل الأسد.

كما يصعب على مفرط في ثوريته مطالبة أهالي درعا بالصمود، يصعب أيضاً على مفرط في السلمية “إذا كان صادقاً” أن يطالبهم بالاستسلام، وأن يتحمل المسؤولية الأخلاقية لتبعات رأيه. لذا سنجد الرأي السائد خارج دائرة الموالين ينص على مساندة القرار الذي يتخذه أهالي درعا، سواء قرروا القتال أو الاستسلام، فالذين يعرفون الكلفة الباهظة غير قادرين على ترجيح واحد منهما من باب تقديم النصيحة للضحية.

عندما استخدم بشار الوحشية المفرطة تجاه المتظاهرين السلميين قيل، حتى من قبل بعض مدعي المعارضة، أنه يفعل ذلك جراء الاستفزاز، وأن سلوكه سيكون مختلفاً في حال زال التهديد عنه. الأيام أثبتت أن الأسد المنتصر لا يقل وحشية عن الأسد الجريح، وأن شعاراً مثل “الجوع أو الركوع” لم يكن مجازياً، والمجازي هو شعار “الأسد أو نحرق البلد” لأن ترجمته الواقعية هي الأسد ونحرق البلد. وفي مثال درعا المثل أمامنا اليوم، كان في وسع الشقيقين الأسد ومَن وراءهما ممارسة ضغوط “مقبولة” على أهالي درعا، من قبيل تسليم الأسلحة وإدخال رموز السلطة المدنية إلى المدينة، بل ربما كان مقبولاً دخول الشرطة العسكرية الروسية وتنفيذها بعض عمليات التفتيش. لكن لم يكن هدف الأسد في أي وقت استعادة “السيادة” على المدينة، الهدف منذ البداية هو الإذلال والتنكيل، وبعد سبعين يوماً من الحصار ومحاولات فاشلة للاقتحام يُتوقع أن تكون أحقاد المهاجمين قد زادت لتنذر بالأسوأ، الأسوأ الذي يبقى مجهولاً حتى لحظة حدوثه.

لا مؤشرات خلال شهرين ونصف على حدوث مفاجأة خارجية لصالح أهالي درعا، والأحداث الدولية مؤخراً توحي بخلاف ذلك. الواقع أن درعا بإمكانيات أهلها وشبابها الذاتية لا تستطيع الانتصار أو الصمود إلى ما لا نهاية، وقد لا تستطيع الاستسلام أيضاً. ورغم كل الحسابات المحلية الطاغية على الحدث إلا أن درعا ما تزال تمثل جانباً مهماً وأساسياً من جوانب القضية السورية، هو استحالة تحقيق النصر على الأسد وداعميه الكثر، واستحالة الاستسلام أمامه. إذا كان من نية دولية لتسليم مزيد من المناطق لبشار فدرعا مثال جديد إضافي على ما ينتظرها، مثال إضافي على الثمن الباهظ الذي تضطر إلى دفعه ضحية محرومة من النصر ومحرومة من حقوق المهزومين.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا