مؤيدو بشار في إسرائيل

تغلّب مؤيدو بشار الأسد في القيادة الإسرائيلية على معارضيه. هذا ما يخلص إليه وزير إسرائيلي كبير متحدثاً عن النقاش الذي دار داخل الحكومة لغاية التدخل العسكري الروسي، أي حتى لم يعد لتل أبيب القدرة السابقة على التحرك في سوريا. الكلام الذي نقله عن الوزير المحللُ العسكري في يديعوت أحرنوت رون بن يشاي قبل يومين تأتي أهميته من التأكيد على قوة المعسكر المساند لبشار، وتحديداً برئاسة الرجل القوي نتنياهو، بكل ما يرمز إليه الأخير من موقعه في اليمين المتطرف ومن قضايا تلاحقه في المحاكم.

رغم عدم كشفه عنقدّم تقرير بن يشاي إحاطة جيدة بأجواء النقاش ضمن الحكومة والجيش، فأنصار بشار استندوا إلى عدم ضمان مجيء التغييرات لصالح إسرائيل، مع التخويف من التنظيمات الجهادية التي يرونها أخطر من نظيراتها بقيادة طهران. أسرار مفاجئة،  أما أنصار التغيير في سوريا فكانوا يرونها فرصة لمجيء نظام جديد، تربطه علاقات جيدة بواشنطن والغرب وحلفائهما العرب، ويمكن توقيع اتفاق سلام معه من دون الانسحاب من الجولان. الإشارة إلى الجولان تبقى ناقصة، ما لم تُستأنف بأنها ليست شأناً ساخناً موضوعاً على الطاولة بسبب مطالبة بشار بها، وليس لها تأثير يُذكر على القرار الإسرائيلي الخاص ببشار بسبب قدرة تل أبيب على الاحتفاظ بها. 

إزاء هذا النوع من التقارير، ما يمكن استنتاجه له في كثير من الأحيان أهمية ما يُكشف عنه. من ذلك أن المفاضلة بين الجهادية السنية ونظيرتها الشيعية، ثم الانحياز إلى الثانية، لا يمكن فصله عن تدفق الميليشيات الشيعية إلى سوريا منذ عام2011، وفي طليعتها حزب الله. ذلك كله لا يمكن حدوثه من دون رضا إسرائيلي. هذا الاستنتاج يدحض ما جاء في التقرير لجهة عدم تدخل تل أبيب لصالح أية جهة في سوريا، ولدينا تسلسل واضح للأحداث بعدم استهداف تلك الميليشيات كما سيكون الحال بعد التدخل العسكري الروسي، أي بعد تكفل موسكو بمهمة إنقاذ بشار وتضاؤل الحاجة إليها.

كان التحالف الدولي ضد داعش قد أُنشئ قبل التدخل العسكري الروسي تماماً بسنة، وهكذا سيبدأ بالانحسار خطرُ التنظيمات الجهادية السنية، وستكون بداية النهاية لترك سوريا ساحة لإنهاك الجهادية السنية والجهادية الشيعية بحرب تستنزفهما بحسب الترويج الأمريكي آنذاك لسياسة أوباما. أي أن بدء الاستهداف الإسرائيلي المكثف للميليشيات الشيعية أتى في المرتبة الثالثة بعد ضمان الحرب على التنظيمات الجهادية السنية، وضمان الإبقاء على بشار، ولعل تسلسل الأولويات كما شهدنا يثبت تأثير الرؤية الإسرائيلية على تلك الوقائع رغم ما كان يُشاع عن فتور بين إدارة أوباما ونتنياهو.

بالطبع، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً الانخراط الإسرائيلي في الشأن السوري، بل العكس هو المستبعد تماماً. التدخل الإسرائيلي لصالح بشار لا يأخذ أهميته فقط مما حدث وانتهى، فواحدة من الإشارات الهامة في التقرير اتفاق مؤيدي بشار ومعارضيه الإسرائيليين على قدرة حكومتهم على إسقاطه أو الإبقاء عليه، أي أن تل أبيب لن تكون بعيدة عن تقرير مستقبل سوريا، مهما تراجعت نسبة تأثيرها في القرار الذي باتت تتشارك فيه قوى دولية وإقليمية أخرى.

نسترجع هنا ما كان يطرحه العديد من المعارضين السوريين حول إبقاء تل أبيب على بشار، لأن البديل “الوطني” لا بد أن يكون معادياً لها جذرياً بخلاف نفاق حلف الممانعة. في المقابل من هؤلاء، حاول معارضون قلائل التقرب من تل أبيب، إلا أن الأخيرة تعاطت مع محاولاتهم باستغلال إعلامي مؤقت يتناسب مع خفة مبادراتهم. لا أصحاب الخطاب المعادي كان لهم تأثير في النقاش ضمن الدائرة الأمنية الإسرائيلية، ولا دعاة السلام والانفتاح كان لهم ذلك التأثير أيضاً، فضلاً عن أن النقاش لا يتطرق إلى فرضية تغيير ديموقراطي حقيقي.

في ما مضى، والآن وفي الأمد المنظور، ستكون المعضلة الإسرائيلية قائمة، والتأثير الإسرائيلي في مستقبل سوريا يعيدنا إلى تقرير بن يشاي الذي قد لا تتغير معطياته بسهولة، بل ربما يجوز التحدث عما يشبه الثوابت التي ستحكم السياسة الإسرائيلية. في مقدمة تلك الثوابت ما يمكن اعتباره حساسية خاصة إزاء فرضية الفوضى في الجوار، فقد جربت تل أبيب ذلك في لبنان وقبل ذلك لزمن أقصر في الأردن، وقادتها العسكريون يرون في شبح الفوضى أسوأ الاحتمالات.

ربطاً بالخشية من الفوضى، تتفق تل أبيب مع دوائر صنع القرار الغربي على تفضيل الخطر الشيعي على نظيره السني، فالثاني منهما يصعب التعامل معه بسبب طبيعته غير المنضبطة، ولعدم خضوعه لمرجعية موحدة يسهل بالمقارنة الاشتباكُ معها عسكرياً أو سياسياً. من جهة أخرى، تندرج الميليشيات الشيعية ضمن مشروع إيراني واضح لاكتساب مناطق نفوذ، في حين تطرح الجهادية السنية أهدافاً “عظمى” تصل بها إلى العدمية السياسية، وإلى استخدام عدمي للعنف.

بصرف النظر عن دقتها وأحقيتها، ستبقى الهواجس الإسرائيلية “ومثيلتها الغربية” قائمة أمام أي مشروع للتغيير في سوريا، حتى لو افترضنا لوحة مضادة للأسد غير اللوحة الحالية، أي إذا خرج الإسلاميون منها واقتصرت على تحالف ديموقراطي-ليبرالي. الخشية الإسرائيلية أن تحالفاً من هذا النوع لن يكون قادراً على الحكم، بسبب افتقاده شعبية داخلية كافية، ولن يكون قادراً على السيطرة على الأوضاع وتأمين الاستقرار.

في جانب منها، لا يبدو أن هناك حلاً لهذه المعضلة سوى تولي تل أبيب أو الغرب مهمة التغيير في سوريا وفرض البديل القادر على تبديد تلك الهواجس. إلا أن ما يذكره تقرير بن يشاي عن النقاش الإسرائيلي يحبط هذه الفرضية، فقد جربت إسرائيل الوصفة في لبنان بتأمين انتخاب بشير الجميل رئيساً وفشلت. على صعيد متصل، لم تتوقف واشنطن عن استذكار تجربتها العراقية التي لا تريد تكرار فشلها ومآسيها.

الخلاصة أن تل أبيب لن تسمح بأي تغيير لا يناسبها في سوريا، وهي قادرة على التغيير بنفسها، وعلى منعه بدعوى ما فيه من مخاطرة، مع التنويه بأن أي تغيير لا يفتقر إلى نسبة من المخاطرة. مؤيدو بشار في إسرائيل حجتهم الذهبية الاستقرار الذي خبروه معه ومع أبيه من قبل، ويصعب إيجاد حجة مضادة مجرّبة. هذا لا يعفي المعارضة السورية من تقديم مشروع ينال ثقة الداخل الخارج، ويفكك التلازم السائد حتى الآن بين الاستقرار والاستبداد، وهي لا تفعل لنيل موافقة إسرائيل على التغيير، بل لتأكيد ما هو مُجرَّب عالمياً لجهة الاستقرار الحقيقي المستدام الذي تأتي به الديموقراطية.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا