مطار دمشق بوصفه نكتة سورية

في الأسابيع الأخيرة راح سوريون، ليسوا من جهة المعارضة، يتندرون على عبارة “خروج مطار دمشق من الخدمة” التي تتكرر عقب القصف الإسرائيلي الذي صار بدوره خبراً معتاداً. أو بالأحرى لم يعد خبراً، وهذا مثار تندر الذين يقترحون اختصار العبارة والاكتفاء مثلاً بالقول “مطار دمشق” ليُفهَم المعنى تلقائياً. في السياق نفسه، بدأت عبارة “خروج المطار..” تنافس كطرفةٍ عبارة “الاحتفاظ بحق الرد”، والأخيرة هي التي يكررها مسؤولو وإعلام الأسد عقب الغارات الإسرائيلية على مختلف المواقع، ما لم يقرروا العودة إلى القول “بجدية مضحكة” أن قواته تردّ فعلاً على القصف الإسرائيلي باستهداف “عملاء إسرائيل” في أنحاء سوريا.

من أجواء التندر، مع التأكيد على أن مصدره ليس معارضاً، تنشر مثلاً صفحة “الجميلية الآن” على الفيسبوك إثر الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مطاري دمشق والمزة يوم الأحد: (الأمهات اليوم: والله ما بجَوْزِك إلا لمتعهد إصلاح مطار دمشق الدولي. فهمانة؟). للصفحة المذكورة 183 ألف متابع، ومن طرائفها الأقدم نشرُها في أواخر حزيران 2020 تصريحاً لدكتورة في العلوم السياسية في جامعة دمشق تقول فيه: (أقول لإسرائيل: كِتْر القصف يقلل الهيبة). بينما جاء في منشور آخر ينضح بالأسى والحسرة حينئذ: (الآن يعود الطيار الإسرائيلي إلى بيته ليسكر، أو يمارس مع حبيبته الرذيلةَ، سالماً مطمئناً يشعر بالفخر لما فعله اليوم من إجرام وحشي شديد غير مسبوق).

لقصف مطار دمشق قبل يومين ميزة إضافية عن المرات السابقة؛ أنه أتى في فترة الهدنة المعلنة في الحرب على غزة. والهدنة كما هو معلوم شملت وقف التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، وإن لم يُعلَن اتفاق خاص بينهما. أما مطار دمشق المسكين فلم يشفع له انتماؤه إلى المحور إياه، أو أن طهران “التي تستخدمه ممراً للأسلحة” لم تشأ تجنيبه موجة أخرى من القصف. وهذه المرة كأنما لم يسلم من السأم المصدرُ العسكري الذي نقلت عنه الخبر وكالة سانا، فاقتصر الخبر على خروج المطار من الخدمة، بينما كان المصدر سخياً في التعليق على غارات 12-10-2023 على النحو التالي: (إن هذا العدوان هو محاولة يائسة من العدو الإسرائيلي المجرم لتحويل الأنظار عن جرائمه التي يرتكبها في غزة، والخسائر الكبيرة التي يتعرض لها على يد المقاومة الفلسطينية، وهو جزء من النهج المستمر في دعم الجماعات الإرهابية المتطرفة التي يحاربها الجيش العربي السوري في شمال البلاد، والتي تشكل ذراعاً مسلحاً للكيان الإسرائيلي، وسيستمر الجيش العربي السوري بملاحقتها وضربها حتى تطهير البلاد منها).

بالمقارنة بين موجتَي القصف، لا يسع المصدر العسكري الإشارة في الأخيرة إلى غزة التي تشهد هدنة، إذ سيثير حينها تساؤلات عن استثنائه من الهدنة. يُضاف إلى ذلك أن التخلي عن الربط البلاغي بين الجبهات ينسجم أكثر مع سلطة الأسد الأقرب إلى السكون والسكوت، سواءً أتى نأيها عمّا يحدث طوعياً، أو أنه بطلب من “الحلفاء”. فالذي لا بد أن يلفت النظر بقوة هو أن الأسد ومسؤوليه لم يستغلوا الحدث الفلسطيني لإظهار رطانتهم المعتادة، ولولا كلمة الأسد في مؤتمر القمة العربية الطارئة لكان قد سجّل غياباً شبه تام عن حدث هو الأسخن في الجوار منذ عقود.

والأمر لا يتعلق بسخونة الحدث فقط، فاستثمار الأسد في الشأن الفلسطيني واحد من الأركان الأساسية الدائمة لسلطته كما ورثها من أبيه. وعدم قدرته على الاستثمار في الحدث الراهن يعني أن ركناً منها قد تقوّض إلى درجة تجعل التظاهر بعكس ذلك غير ممكن، والأسوأ “منظوراً إليه من هذه الجهة” أن حلفاءه لا يريدون ولو شكلياً إظهاره كشريك لهم، ما يعطي إشارات ليست لصالحه على صعيد موقعه ضمن الشراكة ككل.

خلال ما يقارب الشهرين ظهر الأسد مكتفياً بموقعه، قانعاً بالبقاء خارج اللعبة الإقليمية الكبرى. ذلك سهّل على البعض تفسير غيابه بوجود خلاف بينه وبين طهران، إذ يميل هو إلى عدم استثارة غضب إسرائيل التي فضّل مسؤولوها بالعديد من تصريحاتهم بقاءه في السلطة، ولا يريد تالياً أن يكون جزءاً من تصعيد ولو غير محسوب. هذا التفسير، بصرف النظر عن مدى صحته، ينطوي على انتهاء الاستثمار القديم عندما كانت تصريحات الأسد تجاه إسرائيل حامية، مع التفاهم ضمنياً على بقاء الجبهة باردة.

التفسير الذي يعفي الأسد تماماً مما يحدث هو اعتبار المطار ضمن الحصة الإيرانية، ومسؤولية الرد هي على طهران، ما يسهّل على أنصارها القول أنها ترد عبر ميليشياتها في أماكن أخرى. هناك أنصار سوريون لطهران يقولون هذا مواربة أو مباشرة، ولا يقصدون به إعفاء الأسد من الإحراج، بل إنهم يعززون “ربما بلا قصد” صورتَه كفاقد للسيادة على مرفق حيوي جداً. ليكون قد جُرِّد من دعامتَي المقاومة والسيادة، ولو أنهما أصلاً ومنذ زمن بعيد محضُ إنشاء ولغو.

في البداية كان كثير من السوريين يرى أن الحدث الفلسطيني الحالي قدّم خدمة للأسد، إذ على الأقل تحوّلت أنظار العالم عن جرائمه، ولا يُستبعد أن يستفيد في النهاية من صفقة يبرمها حلفاؤه مع واشنطن مقابل تخلّيهم عن حماس وعمّا يسمّونه حالياً “وحدة الجبهات”. في الواقع، ليس هناك أثر ملموس لاستفادة الأسد، فقواته التي تهاجم إدلب مثلاً تفعل ذلك على نحو شبه معتاد، وفي حده الأقصى قد يكون ضمن تفاهم ترعاه روسيا، ويسمح في شقه الآخر لأنقرة باستهداف قسد. في الغضون، لم يتوقف مسلسل العقوبات الأمريكية وآخرها يطال ماهر الأسد، وأصدر القضاء الفرنسي مذكرة توقيف بحق بشار الأسد نفسه.

ما رأيناه “بخلاف الافتراض الأخير” أن الحرب على غزة، وموقع الأسد منها، قد ساهما في إظهار تهافت سلطته، بدءاً من تهافت موقعها ضمن حسابات الحلفاء. وقد أظهر جميع الأطراف بوضوح تام أن هذه السلطة ليست مما يُحسب له أدنى حساب إقليمي، فهي مثلاً لم تتلقَّ أية اتصالات خارج المألوف منذ اندلعت الحرب، والقطيعة الغربية معها لا تبرر غياب الاتصالات إذ كان يمكن إجراؤها عبر وسطاء عرب يزورون دمشق في أوقات لا يكون فيها المطار خارج الخدمة، أو يزورونها حتى بالتنسيق مع تل أبيب كي لا تقصفه مؤقتاً. والإشارة هنا إلى التنسيق مع إسرائيل ليست على سبيل السخرية، فقبل أسابيع قصفت المطار حقاً مستبقة وصول وزير الخارجية الإيراني الذي توجّه إلى بيروت مكتفياً بزيارتها.

من المفهوم على نطاق واسع أن الذين يتندرون على المطار، وبينهم محسوبون على الموالاة، يستخدمونه كنايةً عن تهافت أعمق وأعمّ. ففي ظل الوضع المعيشي المتدهور لا يعتبر معظم السوريين مطار دمشق مرفقاً حيوياً يصعب الاستغناء عنه، بل هو بتكرار قصفه وخروجه من الخدمة يقدّم لهم مادة للتندر تفوق بأثرها وجودَه في الخدمة.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا