معبر نصيب – جابر.. الافتتاح الثالث، المختلف

من المرجح أن يكون الافتتاح الثالث لمعبر نصيب – جابر الحدودي، منذ العام 2015، مختلفاً هذه المرة عن تجربَتي الافتتاح السابقتين. إذ أنه يأتي في ظل تغيّر أولويات السلطة في الأردن، ليُتوّج مكسباً لاستراتيجية “عض الأصابع” اقتصادياً، التي اعتمدها النظام السوري، خلال السنوات الثلاث الفائتة، لصالح اعتباراته السياسية.

فمنذ إغلاق المعبر من جانب الأردن، في العام 2015 -إثر سيطرة فصائل المعارضة عليه-، كانت عمّان تسعى لإعادة فتحه. وعقدت في سبيل ذلك جولات عديدة من التفاوض والحوار مع كلٍ من النظام السوري، وفصائل المعارضة المسيطرة على المعبر، حتى العام 2018. وخلال السنوات الثلاث تلك، فشلت كل المساعي الأردنية في الوصول إلى حلٍ وسط لإعادة فتح هذا الشريان التجاري الحيوي للبلدين معاً. فالنظام السوري كان يصرّ على فرض السيادة الكاملة على المعبر والطريق المؤدي إليه، والإيرادات المتأتية منه، وهو ما كانت فصائل المعارضة المسيطرة على درعا، حينها، ترفضه بالمطلق.

ورغم “الألم” الذي تجرعه الاقتصاد السوري، جراء إغلاق معبر نصيب، كابَر النظام. وفيما كانت سوريا الأكثر تضرراً، بالأرقام، من إغلاق شريان التجارة عبر المعبر، كانت حكومة النظام بدمشق، الأكثر تعنتاً في شروط فتحه. إذ تقدّر خسائر الاقتصاد السوري من إغلاق معبر نصيب، قبل العام 2018، بحوالي 10 إلى 15 مليون دولار يومياً. وتذهب تقديرات إلى أن مجمل الخسائر السنوية للاقتصاد السوري جراء ذلك الإغلاق كانت تصل إلى حدود 5 مليار دولار. فيما كانت خسائر الاقتصاد الأردني بحدود 800 مليون دولار أمريكي سنوياً.

وحتى قبيل بدء حملة السيطرة العسكرية على درعا، في العام 2018، كان الأردن يرسل وفوداً من تجاره إلى دمشق، لفتح قنوات التفاهم مع النظام بخصوص “نصيب – جابر”. لكن مفاوضات فتح المعبر، تطلبت عدة أشهر من المماطلة وشد الحبال، وصولاً إلى افتتاح أُثير الكثير من الضجيج الإعلامي حوله، في تشرين الأول/أكتوبر 2018. قبل أن تجهض إجراءات الحكومتَين في إدارة الحركة التجارية عبر المعبر، آمال شرائح التجار وعمالة الترانزيت، التي راهنت كثيراً على تلك الخطوة، في البلدين معاً. وجاء قرار نظام الأسد في ذلك العام، برفع الرسوم الجمركية على الشاحنات المارة عبر الأراضي الخاضعة لسيطرته، لتزيد من التوتر بين سلطات البلدين. وكان سبب التشديد على الحركة التجارية من الجانبين، يعود إلى تناقض أولويات السلطات على الضفتين. ففي الأردن، كانت الأولوية الأمنية ما تزال تشغل بال مسؤولي الحكومة هناك، لذلك اشترطت منع الشاحنات السورية من دخول الأراضي الأردنية، وفرضت تفريغ البضائع من الشاحنات السورية إلى شاحنات أردنية، في المعبر. الأمر الذي أثار استياءً كبيراً لدى حكومة النظام السوري. أما مصدر الاستياء الآخر، فكان أن مسؤولي الأردن لجأوا للتواصل مع الروس في محاولة حل المشكلات مع دمشق، وهو ما رفضته حكومة النظام علناً، عبر وسائل إعلامها، في ذلك الحين. واشترط النظام تطبيعاً رسمياً أردنياً معه، مقابل حلحلة كل المشكلات العالقة على الحدود، في تجاهل كامل لحاجة الاقتصاد السوري لذلك الشريان الحيوي من التجارة والترانزيت. وفيما وضع النظام السياسة أولوية على الاقتصاد، فعل الأردن أمراً مشابهاً، إذ خضع لضغوط إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بلجم انفتاحه على نظام الأسد.

وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، تغيّرت أولويات السلطة في الأردن، كلياً. إذ بات الاقتصاد والوضع الداخلي، الهمّ الرئيس، بعد أن استشعر العاهل الأردني خطورة الاحتجاجات المتفرقة والمحلية التي اندلعت على مدار السنتين الأخيرتين، ومن بينها احتجاجات “البحارة” في الرمثا –سائقي الترانزيت إلى سوريا-، بعد أن كاد ولي عهده السابق، الأمير حمزة، ينجح في ركوب موجة أحد تلك الاحتجاجات المحلية، ويشكّل خطراً على حكمه للبلاد. وفيما يكابد الأردن انكماشاً اقتصادياً هو الأكبر منذ عقدَين، وارتفاعاً مهولاً في معدلات البطالة، تستشعر سلطاته خطورة التململ الاجتماعي المرتقب بعد الخروج من أجواء تفشي جائحة كوفيد 19، والتداعيات الاقتصادية لتلك الفترة. في الوقت ذاته، يجد الأردن حليفاً في البيت الأبيض، يساير هوى مَلِكِه، في البناء على نظرية إعادة تأهيل النظام السوري، ودمجه مجدداً، في “محيطه” العربي.

لكن ماذا عن الهاجس الأمني الأردني؟ الميليشيات الإيرانية القريبة من الحدود، وتجارة المخدرات التي باتت سوريا مصدراً رئيسياً لها في المنطقة. الجواب يتجلى في رهانٍ واضح من جانب الحكومة الأردنية على إعادة بناء علاقات الثقة مع حكومة نظام الأسد. هذا ما يمكن فهمه من التواصل المتصاعد بين مسؤولي الحكومتين، وصولاً إلى زيارة وزير الدفاع علي أيوب إلى عمّان مؤخراً. ولقاء وزير الخارجية الأردني بنظيره، فيصل مقداد، في نيويورك. ويبقى تهريب المخدرات أكثر القضايا تعقيداً، إذ رغم أن الأردن وافق على تمرير 100 شاحنة تجارية يومياً، فقط، عبر المعبر، فيما كان الرقم أضعاف ذلك بمرات، قبل العام 2011، إلا أن شكوكاً ستبقى تحيط بمدى قدرة الأجهزة الأمنية الأردنية على تفتيش الـ 100 شاحنة يومياً. ومن المعلوم، أن جمارك المعبر عادةً ما تُفتش شاحنات محددة، مختارة عشوائياً، فقط. لكن يبقى ما دار وراء الكواليس، بين مسؤولي الطرفين، كلمة السرّ في القبول الأردني بتمرير هذا العدد الكبير نسبياً من الشاحنات، مقارنة بالاعتبارات الأمنية المرتبطة بعُقدة المخدرات. فالاعتبارات الاقتصادية تبقى لها الأولوية في الأردن، الذي تريد سلطاته ضمان هدوء المجتمعات المحلية الشمالية، المتاخمة للحدود، والتي اعتاشت لعقود، قبل الـ 2011، على التجارة النظامية، وغير النظامية، مع سوريا. إلى جانب تنشيط حركة الترانزيت عبر الأردن، والتي تذهب تقديرات إلى أنها قد ترفد الاقتصاد الأردني بإيرادات تصل إلى مليار دولار سنوياً.

أما على الضفة السورية، فالمكسب السياسي من التطبيع الرسمي مع الأردن، هو أكبر إنجاز، وفق اعتبارات النظام. لكن ذلك لا ينفي أن الآثار الاقتصادية لفتح المعبر، وتحسّن الحركة التجارية عبره، تدريجياً، ستعود بفوائد نوعية على الاقتصاد السوري. كما أنها سترفد خزينة النظام بمكاسب كبيرة من خلال الرسوم الجمركية المباشرة على حركة الترانزيت، وغير المباشرة المتمثلة بالضرائب على تصدير البضائع السورية، الذي من المتوقع أن تزيد وتيرته. وكالعادة سينعكس ذلك سلباً على المستهلك السوري، عبر ارتفاع أسعار السلع المُنتجة محلياً، والتي سيراهن مُنتجوها على أسواق التصدير أكثر من السوق المحلية التي تعاني من انهيار القدرة الشرائية. لكن انتعاش قطاعات المُنتجين، له أيضاً، عوائده الإيجابية على شريحة ملحوظة من السوريين.

ويبقى تضخيم العوائد التجارية من معبر نصيب – جابر، وصولاً إلى المستويات التي كانت سائدة قبل العام 2011، وقفاً على استكمال فتح طرق الترانزيت في الشمال السوري، التي تصل إلى تركيا. وهناك، تدور معركة الطريق الدولي إم 4، جنوب إدلب، مجدداً، في الميدان، ووراء كواليس لقاء الرئيسين الروسي والتركي، الذي لم تتكشف نتائجه، بعد. من دون أن ننسى، أن أحد أبرز المستفيدين المُرجحين، هي إيران، وتجارة المخدرات الخاصة بها، في سوريا، والمرتبطة بحزب الله، وبالفرقة الرابعة التي يقودها شقيق رأس النظام، ماهر الأسد. فـ 100 شاحنة يومياً، ستكون كفيلة بتمرير كميات أكبر من الكبتاغون، من تلك التي يمكن تمريرها عبر المعابر غير الشرعية في أراضٍ حدودية يغلب عليها الطابع الصحراوي، ويسهل على حرس الحدود الأردني رصدها، في كثيرٍ من الأحيان.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا