من التخفيض إلى الإلغاء..كيف فقد السوريون سلة “الغذاء العالمي”؟

وسط خيمة صغيرة، اتخذها مطبخاً بعد نزوحه من قرية بابيص بريف حلب، يعاين محمود ما تبقّى من آخر سلة غذائية تلقاها من “برنامج الغذاء العالمي” عبر منظمة محلية، بعد الأنباء التي ترددت على مسامعه حول “تخفيضٍ حاد” بالمساعدات التي يقدمها البرنامج الأممي، ما قد يحرمه نهائياً من السلة الشهرية.

محمود محمد جربان، مر بمحطات تهجير مختلفة بسبب العمليات العسكرية المستمرة، وحط رحاله في تجمع مخيمات الكمونة شمال إدلب، في محاولة منه لـ”بدء مرحلة استقرار جديدة، قبل أن يصعقني هذا الخبر”، يقول محمود.

آلاف العائلات مهددة

ليس لدى محمود دخلاً ثابتاً، وفق ما يقول لـ “السورية نت”، على اعتبار أنه عامل حرّ، وذلك لأن رحلات التهجير وعدم الاستقرار قللت فرص العمل المتاحة أمامه منذ فترة طويلة، ما يجعل انقطاع السلة الغذائية “سبباً رئيسياً في غياب مصادر الدخل والمعيشة”، على حد تعبيره.

عائلة محمود واحدة من 270 ألف عائلة مستفيدة من برنامج “الغذاء العالمي” في منطقة شمال غرب سورية، بحسب إحصاءات المنظمات الشريكة، والتي باتت اليوم مهددة بالحرمان النهائي من السلة، بموجب القرار الأخير الصادر في 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي عن برنامج “الغذاء العالمي” التابع لـ”الأمم المتحدة”.

إذ أعلن برنامج “الغذاء العالمي” انتهاء برنامج مساعداته في جميع أنحاء سورية، بسبب “نقص التمويل”، وسط تضارب الأنباء حول إنهاء البرنامج بشكل كامل أو تخفيضه بشكل حاد.

ومن مخيمات الكمونة، إلى مخيم “المعتصم بالله” قرب بلدة حزانو شمالي إدلب، لم يختلف الحال لدى أيمن الجدوع، النازح من ريف مدينة معرة النعمان، إذ شكل قرار الإيقاف صدمةً له، وفق ما يقول.

ويضيف في حديثه لـ”السورية.نت”: “كنا عايشين من هذه السلة، إذا توقف توزيع السلة الغذائية ليس لدينا استطاعة لشراء السكر والرز والطحين والبرغل والزيت”.

كان الجدوع من بين الآلاف الذين طالتهم براثن البطالة منذ تهجيره من قريته نهاية عام 2019، حيث خسر مصدر رزقه في الزراعة والرعي، وهذا ما يجعل سلة برنامج الغذاء العالمي “مورداً مهماً” لعائلته.

أما معتز الحويجة، مهجّر من ريف مدينة معرة النعمان، يتحدث أيضاً عن ضيق المعيشة لدى العائلات المهجرة في ظل مصاريف المياه وأجور الأراضي الزراعية التي يقوم عليها المخيم، إضافةً إلى خدمات الصحة والغذاء التي يتكفّل بها ربّ الأسرة.

ويشير الحويجة لـ”السورية.نت” إلى “مشقة القرار الأخير في إيقاف السلة الغذائية، ليضاعف معاناة الأسر النازحة ـ وأنا منهم ـ في مخيمات النزوح في إدلب، مع تدهور الحال المعيشي وتراجع فرص العمل”.

“تدخّلات بصيغة أخرى”

أحمد هاشم، منسق مشاريع في منظمة “عطاء”، وهي منظمة شريكة لـ”برنامج الغذاء العالمي” في منطقة شمال غرب سورية، يتحدث عن تفاصيل القرار الأخير الصادر عن البرنامج، والذي قد يؤدي لنتائج “كارثية” على المجتمع المحلي في المنطقة.

يقول هاشم لـ”السورية.نت” إنه “منذ نهاية عام 2023 تم إبلاغنا ـ نحن شركاء المنظمة العالمية ـ بالتخفيض الحاد لتدخل برنامج الغذاء العالمي في عام 2024، ليتحوّل إلى تدخلات بصيغة أخرى خلال هذا العام”.

ويتابع: “بالنسبة لنا كعاملين في الشأن الإنساني، في شمال غرب سورية وعلى تماس مباشر مع العائلات المستفيدة والفقيرة والمهجرة وذوي الاحتياجات الخاصة، والعائلات التي لا دخل لها إلا هذه السلة، كان الخبر بالنسبة لنا كالصاعقة لأننا نعلم مدى تأثيره على الواقع المعيشي للإخوة النازحين والمهجرين”.

واعتبر هاشم أن هذا القرار “مرتبط بقلة الدعم والتمويل العالمي للبرنامج، حيث لم يتم توفير المساعدات المالية بالحد المطلوب لتغطية المنطقة وباقي مناطق النزاع في العالم”، مستبعداً فرص التراجع عن القرار “بسبب نقص التمويل”.

ويتحدث أيضاً عن “وجود نقص في التغطية، إذ لم يصل البرنامج بالأصل إلى الاحتياج الكامل لمنطقة شمال غرب سورية، على اعتبار أن نسبة الفقر وصلت لـ 90% من السكان، في حين أن البرنامج لبى حوالي 30% من الحاجة العامة للأهالي”.

وبحسب العامل في المجال الإنساني فإن إيقاف برنامج الغذاء العالمي في المنطقة، “له آثار سلبية بالغة لعدة أسباب، أبرزها الفقر المدقع للعائلات المستفيدة، ما قد يؤدي إلى مجاعة تلوح بالأفق بالرغم من نشاط البرنامج بعد التخفيضات الكبيرة”.

وينفي هاشم وجود بدائل لدى منظمات المجتمع المدني في المنطقة، معتبراً أن البدائل “تحتاج لتمويل دول قائمة، ذات انتعاش اقتصادي تتبرع بالأموال عن طريق برنامج الغذاء العالمي، أما المنظمات التي تعتمد على التبرعات الفردية لا يمكن أن تسد مكان البرنامج”، وفق تعبيره.

“بدائل لا تسد الحاجة”

من جانبه، يوضح بسام الأحمد، مدير مكتب إدلب في منظمة “إحسان للإغاثة والتنمية”، إحدى مشاريع “المنتدى السوري”، أن “معظم سكان منطقة شمال غرب سورية، البالغ أكثر من 4 مليون نسمة، يعيشون دون خط الفقر”.

لافتاً في حديثه لـ “السورية نت” أن “أكثر من 200 ألف عائلة لا تتلقى مساعدات ولا يتوفر لديها الأمن الغذائي”.

ويضيف: “مع قرار برنامج الغذاء العالمي، الذي تحدث عن عملية تخفيض، وهو يكاد يكون توقفاً كاملاً، سيزداد هذا الاحتياج إلى أكثر من الضعف، وهذا ما يجعلنا كمؤسسة نشعر بالمسؤولية تجاه الأهالي، الذين لا يتوفر لديهم أي مصدر للغذاء”.

وتحدث الأحمد عن محاولات للتواصل مع جهات أخرى “من أجل تأمين الدعم الكافي”.

من جهته، اعتبر مدير منطقة إدلب في منظمة “سيريا ريليف”، عبد الرزاق عوض، أنّ “إيقاف برنامج الغذاء قد يودي لنتائج كارثية على سكان منطقة شمال غرب سورية، ومجتمع النازحين تحديداً، الذين تغيب عنهم فرص العمل والدخل، ويعتمدون بشكل كامل في قوتهم على هذه السلة”.

ويتحدث لـ”السورية.نت” عن “غياب كامل لحملات المناصرة و حركات الحشد والمساندة للنازحين، من أجل الضغط لإعادة هذه المساعدات للعائلات النازحة”.

وعلى الرغم من وجود مشاريع تقدم قسائم نقدية لعائلات نازحة في منطقة شمال غرب سورية، تقوم عليها “سيريا ريليف”، إلا أنها “وإن عظمت لا يمكن أن تسد حاجة العائلات النازحة في المنطقة أو أن تكون بديلاً عن برنامج الغذاء العالمي”، وفق ما يقول عوض.

“القرار كان متوقعاً”

عامر العلو، مدير مكتب “كلاستر” في مكتب “تنسيق العمل الإنساني” التابع لـ”حكومة الإنقاذ السورية”، يرى أن “قرار التخفيض كان متوقعاً، لكن ليس بهذه النسبة الكبيرة التي وصلت لأكثر من 70% من المستفيدين”.

ويضيف في حديثه لـ”السورية.نت” أن “البرنامج يمكن أن يستهدف مستقبلاً حالات الضعف فقط، من أرامل ومطلقات والإصابات وحالات العجز والفقر الشديد”.

ويتحدث العلو عن “بدائل مطروحة لمشاريع طويلة الأمد بالتعاون مع شركائنا في العمل الإنساني، تقدم فرص عمل للعائلات المستفيدة وبنى تحتية للمنطقة”.

وبالرغم من “البدائل المطروحة” التي يتحدث عنها، يعتبر العلو أن “أثر إيقاف برنامج الغذاء على العائلات، هو أثر مباشر، يتعلق ببقاء الإنسان وغذائه، لذلك سيكون الأثر كبيراً وسلبياً”.

وبحسب أرقام وزارة التنمية والشؤون الإنسانية التابعة لـ”الإنقاذ”، فإن أكثر من 456 مخيماً من أصل 1211، كان مكفولاً من برنامج الغذاء العالمي، بعدد مستفيدين يصل لـ 991 ألفاً و740 نازحاً، كما بلغ عدد القرى والبلدات المكفولة حوالي 119 من أصل 325، بتعداد يصل لـ 308 آلاف و260 مستفيداً.

ووفقاً لأرقام الوزارة، فإنّ توقف برنامج الغذاء، سيزيد الاحتياجات في القرى والبلدات لـ 2 مليون نسمة و460 ألفاً، بينما في المخيمات سيصل الاحتياج لمليون نسمة و82 ألفاً.

“أصغر حجماً وأكثر دقة”

وكان برنامج “الغذاء العالمي” التابع للأمم المتحدة، أعلن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، انتهاء برنامج مساعداته في جميع أنحاء سورية، بسبب “نقص التمويل”.

وبحسب إشعار إعلامي وصل لـ”السورية.نت”، يبدأ تاريخ إيقاف المساعدات في يناير/كانون الثاني 2024.

موضحاً أنه “لم يعد قادراً على مواصلة تقديم الغذاء بمستوياته السابقة، في خضم أزمة تمويل تاريخية خانقة، سيكون لها عواقب لا توصف على ملايين الأشخاص”.

وتعليقاً على هذا القرار، قال برنامج “الغذاء العالمي” في بيان له في 31 ديسمبر الماضي، إن آخر توزيع للمساعدات الغذائية العامة كان في ديسمبر 2023، باستثناء 110 آلاف شخص في ستة مخيمات شمال شرقي سورية.

ولفت البرنامج الأممي إلى أنه في عام 2024 سيتم التركيز على “مجموعة أصغر حجماً وأكثر دقة واستهدافاً تشمل الأسر الأشد ضعفاً”.

مشيراً إلى أنه قام بتعديل خطته القائمة على الاحتياجات من 1.5 مليار دولار أمريكي في عام 2023، إلى مليار دولار في عام 2024، مع التركيز على تلبية احتياجات الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد.

وحذر البيان من تدهور أوضاع السوريين المعيشية، لافتاً إلى أن 80% من السكان السوريين يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية في عام 2024.

وكذلك يعاني ما يقارب 55% من السوريين، بواقع 12.9 مليون شخص، من انعدام الأمن الغذائي، منهم 3.1 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد.

ويتحدث التقرير عن انخفاض مستوى معيشة الشعب في سورية بشكل كبير عام 2023، مع ارتفاع تكلفة سلة الإنفاق الدنيا وأسعار المواد الغذائية إلى أكثر من الضعف، لتصل إلى 2.4 مليون ليرة سورية في كانون الأول/ديسمبر الماضي.

ويقول إن الأسر التي تحصل على الحد الأدنى للأجور “لا تستطيع سوى توفير خمس احتياجاتها الغذائية”.

من التخفيض إلى الإلغاء

خلال السنوات الثلاث الماضية، شهدت مساعدات برنامج “الغذاء العالمي” تخفيضاً تدريجياً وصولاً إلى وقف برنامجه بشكل حاد.

ففي سبتمبر/ أيلول 2021، أعلن البرنامج عن تخفيض كمية المواد الغذائية في محتوى سلة المساعدات الإنسانية، في منطقة شمال غربي سورية، بدءاً من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من ذات العام.

وأوضح في بيان له أنّ قرار التخفيض جاء بهدف زيادة أعداد المستفيدين المستهدفين في المنطقة، لتغطية المزيد من الاحتياجات الإنسانية، في ظل محدودية الموارد.

لافتاً إلى أن ذلك التخفيض هو الثالث للبرنامج منذ بدء عمله شمال غربي سورية.

وبحسب بيان صادر عن مكتب ومنسق الطوارئ في المنطقة، جان سوفانتو، فإنّ “كل أسرة مستفيدة ستحصل على أربعة لترات من الزيت و7.5 كيلو غراماً من البرغل و5 كيلو غراماً من السكر، في حين أن مواد القمح والأرز والعدس الأحمر والحمص والملح ستبقى محافظة على كميتها السابقة دون تغيير”.

وقدر فريق “منسقو استجابة سوريا”، حينها، حجم التخفيض بما يقارب الـ 309 سعرة حرارية للسلة الواحدة، لافتاً إلى أن التخفيض “شمل مواداً أساسية ضمن السلة الغذائية”.

وفي أبريل/ نيسان 2022، أعلن البرنامج عن تخفيض جديد في مساعداته لشمال غربي سورية، بمقدار 171 سعرة حرارية للسلة الغذائية الواحدة.

وقال إن “التخفيض لا يتناسب مع تقييم الاحتياجات الإنسانية في المنطقة، فضلاً عن وجود عشوائية في اختيار مواد السلة”.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2022، أعلن البرنامج عن تخفيض قيمة السلة الغذائية من 60 دولاراً إلى 40 دولاراً أمريكياً، بالإضافة إلى انخفاض في قيمة القسائم النقدية.

وخلال العام الماضي (2023)، خفض برنامج “الغذاء العالمي” مساعداته لسورية مرتين اثنتين، الأولى في يونيو/ حزيران، حين أعلن قطع المساعدات عن 2.5 مليون سوري في أنحاء البلاد، بسبب أزمة تمويل.

مشيراً إلى أنه “تقرر إعطاء الأولوية لـ 3 ملايين سوري غير قادرين على البقاء من أسبوع إلى آخر دون مساعدة غذائية”.

ثم في ديسمبر/ كانون الأول 2023، أعلن البرنامج عن قراره المفاجئ بانتهاء برنامج مساعداته في جميع أنحاء سورية، بسبب “نقص التمويل”، ليكون هذا التخفيض السابع له منذ بدء عمله في سورية والأكبر من نوعه.

ومن المقرر أن يتم التركيز على فئة محدودة جداً، وهي “الأشد ضعفاً”، بموجب الخطة الجديدة لعام 2024.

تحذيرات دولية من “كارثة”

أثار القرار الأخير لبرنامج “الغذاء العالمي” ردود فعل دولية، وسط تحذيرات من عواقب “كارثية” قد تلحق بملايين السوريين، خاصة الفئات “الهشة” بينهم.

وتعليقاً على ذلك، استنكر النائب في مجلس النواب الأمريكي، فرينش هيل، القرار محذراً من تدهور الأوضاع المعيشية للسوريين.

وقال عبر حسابه في “إكس”، في يناير/ كانون الثاني الماضي، إنه “على مدى 13 عاماً، هاجمت روسيا والأسد المدنيين الأبرياء، ومنعت المساعدات الغذائية للأمم المتحدة حتى بعد وقوع الزلزال المروع”.

من جانبها، اعتبرت صحيفة “لوموند” الفرنسية أن وقف برنامج المساعدات “سيؤدي إلى تفاقم البؤس الاجتماعي” في سورية.

وقالت في تقرير لها، مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، إن القرار “لا يمكن الرجوع عنه. لكن انخفاض التمويل الدولي المسجل منذ تفشي جائحة فيروس كورونا، ثم اندلاع الحرب في أوكرانيا، لا يترك إلا القليل من الأمل في استئناف عمليات التوزيع”.

وكذلك، اعتبرت الباحثة في الشأن الإنساني، إيستر مينينغهاوس، أن القرار “كارثي”، حيث يفتقر أكثر من 12 مليون شخص في سورية إلى إمكانية الحصول بشكل منتظم على الغذاء الكافي.

وقالت عبر حسابها في “إكس”: “قرار كارثي في الشتاء. لأنه حتى مع استمرار برنامج الغذاء العالمي يعاني 60% من الجوع” في سورية.

يشار إلى أنه على مدار السنوات العشر الماضية من الحرب السورية، أنفق برنامج “الغذاء العالمي” ثلاثة مليارات دولار على توصيل 4.8 مليون طن متري من الغذاء، وأكثر من 300 مليون دولار من المساعدات النقدية، و800 مليون دولار من السلع والخدمات، وفق بياناته الرسمية.

المصدر السورية نت
قد يعجبك أيضا