من صيد الوثائق إلى محاكمة النظام السوري

كشفت لجنة العدل والمساءلة الدولية عن مجمل نشاطها في كشف الوثائق السرية، التي جرت من خلالها حرب نظام الأسد ضد السوريين في السنوات العشر الماضية، وتضمنت المحصلة أكثر من تسعمائة ألف وثيقة سرية، شملت قرارات وتعليمات وتوجيهات للأجهزة العسكرية والأمنية والمدنية التابعة للنظام، عما ينبغي القيام به، وأين ومتى وكيف في إطار حرب التقتيل والتدمير والتشريد. ومما زاد في أهمية الكشف، قيام محطة «سي بي إس نيوز»، وهي إحدى أهم قنوات الإعلام الأميركي بالحديث عنه عبر برنامج «60 دقيقة» الموصوف بأنه واحد من أهم برامج المحطة، وجرى إبراز ثلاث نقاط أساسية، الأولى تتصل بعدد الوثائق ونوعها، وقيل إنها تزيد على 900 ألف وثيقة، تشمل كل مجالات إجرام النظام، والثانية تأكيد أنها ترتبط بالأسد شخصياً وكبار معاونيه؛ إذ هي صادرة من الأعلى إلى الأسفل في سلم إدارة النظام، متضمنة توجيهات الأسد وعليها توقيعه، والنقطة الثالثة هي أن الوثائق تكشف عن أدلة تورط النظام ورئيسه بجرائم أكثر وأهم منتلك التي استخدمت لإثبات جرائم النازيين، التي جرى ارتكابها في الحرب العالمية الثانية.

ما وصلت إليه لجنة العدالة والمساءلة الدولية من نتائج، جزء من محصلة جهود سورية ودولية، تشارك فيها أفراد ومؤسسات ودول، بذلوا جهوداً كثيرة وبعضها خارق للوصول إلى وثائق تثبت حيثيات الجرائم، وتكشف عن بعض تفاصيل، يصر البعض، وخاصة في المحاكم على وجودها باعتبارها أدلة لمحاكمة النظام ورموزه؛ مما جعل جهود لجنة العدالة والمساءلة هي الأبرز والأهم بما توفر لها من بيئة نجاح؛ إذ ضمت في صفوفها محققين ومحللين، ومحامين من بلدان مختلفة، عملوا في تجارب مشهودة، وتوفرت لديهم إرادة وجدية كافيتين للعمل، كما توفرت لها ميزانية، تساعد في تنفيذ أعمالها ونشاطاتها، والتي كان في مقدمتها اختيار وتدريب عشرات من كوادر سورية لمتابعة الوثائق وتدقيقها؛ مما عزز عمليات اللجنة، وأعطاها مستوى عالياً من المصداقية على ما ظهر في محتويات تقاريرها من نتائج.

لم يكن عمل اللجنة (ولا عمل غيرها) سهلاً في سوريا، حيث الصمت والكتمان سمة أساسية في نظام الأسد المغلق والدموي منذ أن أقامه الأسد الأب عام 1970، وتابعه الوريث في عام 2000، وذهب به إلى الأسوأ، حسب ما بينت الوقائع والوثائق، ولعل الأشهر والأبرز فيها عمليات القتل تحت التعذيب على نحو ما بينت عشرات آلاف الصور التي قام بتهريبها قيصر ورفيقه سامي، ومثلها الكشف عن مسار عمليات الإعدام اليومية لعشرات المعتقلين في سجن صيدنايا العسكري حسب ما قاله شهود، واستيراد وتشغيل أجهزة حرق جثث المعتقلين ممن يتم إعدامهم أو قتلهم تحت التعذيب لإخفاء تلك الجرائم، إضافة إلى استخدام الأسلحة الكيماوية في مجازر ضد المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

إن القاسم المشترك في الجرائم السابقة، أنها جرت بواسطة الأجهزة العسكرية والأمنية مباشرة، لكن ثمة جرائم أخرى، ارتكبها نظام الأسد بواسطة مؤسسات وأجهزة النظام المدنية، كما تبين أمثلة، كشفت عنها وثائق وشهادات، منها استخدام المشافي العامة في عمليات تعذيب وقتل معتقلين جرحى، كما حدث في مشفى دمشق الوطني، واستخدام محاكم وزارة العدل وخاصة محاكم الجنايات في تجريم متهمين بتهم خارج القانون، وقيام شركات المياه والكهرباء والهاتف، التي تسيطر عليها الحكومة بقطع إمداداتها عن المناطق المحاصرة في إجراءات، في حين تولت البلديات مصادرة عقارات وأراض في مناطق ثارت على النظام في إطار جرائم تختلط فيها جرائم العقوبات الجماعية مع جرائم التغيير الديموغرافي، وهذا ما قامت به محافظة مدينة دمشق، ولم يكن لهذه المؤسسات أن ترتكب مثل هذه الجرائم إلا بتدخل مباشر من جانب رأس النظام وقادة الأجهزة الأمنية، حسبما تتضمن وثائق سرية تم الوصول إليها.

إن الوصول إلى وثائق النظام السرية، لا يكشف عن جرائم نظام الأسد فقط، إنما يبين سعي النظام وأجهزته لإخضاع السوريين وإعادتهم إلى بيت الطاعة عبر مختلف الوسائل، بما فيها القوة الوحشية مجسدة بعمليات القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير والتدمير، والنهب والتعفيش والابتزاز، وكلها أسس تربت عليها أجهزة النظام، وأكدتها مرات كما في أحداث ثمانينات القرن الماضي، ومنها أحداث مدينة حماة، وكررتها حيث تطلبت الحاجة كما في تعاملها مع الفلسطينيين واللبنانيين في عقود التدخل السوري في لبنان.

غير أن الأهم في كشف الوثائق، تعميم محتوياتها لدى الرأي العام وتحشيده ضد النظام، وتقديمها إلى جهات معنية بالحصول عليها، مثل المحاكم ومنظمات حقوق الإنسان والدول، لاتخاذ ما يمكن من خطوات، يمكن حالياً ملاحظة ثلاثة تعبيرات منها؛ أولها قيام الولايات المتحدة بإصدار قانون قيصر الذي يشمل بعقوباته النظام وشخصيات فيه، وأطرافاً خارجية لها دور في جرائم نظام الأسد. والتعبير الثاني سلسلة من العقوبات الأورو – أميركية ضد كيانات وشخصيات سورية نتيجة دورها في الجرائم ضد السوريين ودعم سياسات الأسد. والتعبير الثالث استخدام الوثائق في محاكمات عناصر النظام، كما ظهر الأمر في محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب الجارية في ألمانيا، والتي بات من المؤكد تكرارها في بلدان أخرى.

لقد فتحت الوثائق المسربة الباب ليحمل أصحاب الجرائم والذين يصدرون أوامر القيام بها مسؤولية أعمالهم، وعلى نحو ما حصل في المحاكمة الجارية في المانيا، فإن قادة النظام وأجهزته سيلاقون المصير ذاته بسوقهم إلى محاكم، سواء كانت على غرار المحكمة الألمانية أو محكمة الجنايات الدولية، أو محكمة خاصة سيتم تشكيلها لمحاكمة مسؤولي نظام الأسد على غرار محكمة نورمبيرغ التي حاكمت عام 1945 مجرمي حرب القيادة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، وفي الفترة الثانية، حاكمت الأطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر.

المصدر الشرق الأوسط


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا