هل تنتهي المرحلة البوتينية بعد الحرب الأوكرانية؟

لا يهتم التاريخ بأسباب الحروب كما يهتم بنتائجها، فما قبل الحرب يبقى عرضة لاختلاف الأفكار والتحليلات والتفاسير، لكن وقائع الحرب وما تسفر عنه على الأرض، يُصبح واقعاً ملموساً، يصعب الاختلاف حوله.

في مقابلة مع الفيلسوف الأميركي “نعوم تشومسكي”، جرت مؤخراً، قال: (إن هناك احتمالين فقط للحرب الدائرة في أوكرانيا، أولهما تدمير أوكرانيا بالكامل، ثم الانتقال إلى حرب نووية مدمرة للعالم كله، أو ترتيب خطة لخروج بوتين من الفخ الذي أوقع نفسه وروسيا فيه بغزوه لأوكرانيا، خطة قد تتضمن تسوية ما لشبه جزيرة القرم والتزام أوكرانيا، بعدم الانضمام لحلف الناتو).

في العناوين العريضة للحرب الدائرة في أوكرانيا، يُمكن القول إن بوتين خسر هذه الحرب، فقد كشفت هذه الحرب ضعف الجيش الروسي على مستويات عدة، سواء بالتخطيط، أو بضعف المعلومات الاستخبارية، أو بمستوى تدريب الجيش وامتلاكه للمهارات القتالية، ومدى انضباطه، أو على المستوى الاستراتيجي من حيث التحالفات الدولية، ومدى استعداد أطراف دولية كثيرة للمضي قدماً في دعم حلم بوتين، بكسر القطبية الأحادية، وإعادة العالم إلى حالة تعدد الأقطاب.

اعتمد بوتين في حربه ضد أوكرانيا على ثلاثة ركائز أساسية، أولها قوة روسيا العسكرية الساحقة، فيما لو تمت مقارنتها بالقوة العسكرية الأوكرانية، وثانيها حاجة العالم لمصادر الطاقة سواء النفط أو الغاز أو الفحم، وهي مصادر ثلاثة تشكل روسيا طرفا بالغ الأهمية في إمداد السوق العالمية بها، وثالثها رهانه على علاقة الشعب الأوكراني التاريخية بالشعب الروسي، وتوقعاته وتقارير جهاته المختصة، حول رفض نسبة كبيرة من الأوكرانيين لحكومة زيلنسكي وطريقة إدارته للدولة.

بالإضافة إلى الركائز المذكورة، وضع بوتين خطته العسكرية مستنداً على تجارب تدخلاته العسكرية السابقة في عدة مناطق من العالم، متوقعاً أنه سيضع العالم أمام أمر واقع خلال فترة قصيرة، وأن المجتمع الدولي سيقف عاجزاً عن محاصرة روسيا اقتصادياً، بسبب حاجته الماسة للطاقة القادمة منها، وسيكون عاجزاً عن إشعال حرب مع روسيا النووية، وأن الشعب الأوكراني سيمنح الشرعية للحكومة التي سيضعها الروس، بدلاً من حكومة “زيلنسكي”.

اليوم وبعد خمسين يوماً من بداية هذه المعركة، يتضح تماماً أن كل ما ارتكز عليه “بوتين” لخوض معركته في أوكرانيا كان خاطئاً، فلم يستطع أن يحقق مفاجأته العسكرية، والحصار الاقتصادي بدأ منذ اللحظة الأولى ويشتد كل يوم، ومن كان يأمل أن يساندوه بدؤوا يعيدون حساباتهم، والشعب الأوكراني وقف بقوة خلف قيادة “زيلنسكي”.

خسر “بوتين” معركته الاقتصادية، ودفع الأوروبيين للبحث استراتيجياً عن بدائل للطاقة الروسية، الأمر الذي يعني أن ما يشكل مصدر قوة لروسيا في اللحظة الراهنة، لن يبقى كذلك خلال سنوات قليلة، وخسر معركته الأخلاقية بعد مشاهد القتل الجماعي وتدمير المدن، وخسر معركته الإعلامية، وخسر علاقة الشعب الأوكراني بروسيا، إذ أصبحت روسيا بنظر النسبة الساحقة من الأوكرانيين عدوهم الأول، وحلمه بإبعاد حلف “الناتو” عن الحدود الروسية تبخر أيضاً، لا بل إن الحلف سوف يزداد اقتراباً، فما الذي تبقى له ليعلق راية انتصاره عليه؟

وحيدٌ مع قوته النووية يقف اليوم بوتين عارياً، ولم يبق أمامه إلا أن يختار بين هزيمة مدوية، أو حماقة مدوية، وكلتاهما تعني نهاية المرحلة البوتينية من تاريخ روسيا، ومن يمكنه إخراج “بوتين” من مأزقه ليس الصين، ولا الهند، وحدها أوروبا قادرة على كسر هذه المواجهة المدمّرة التي تصر عليها أميركا في مواجهة “بوتين”، ورغم أن الأمر يبدو نوعاً من الخيال أو الفانتازيا السياسية، خصوصاً بعدما فعله بوتين من إغلاق الباب في وجه الأوروبيين، الذين حاولوا استباق الحرب، ثم حاولوا وقفها، وتهديداته المستفزة لدول أوروبية عديدة، إلا أن المصالح بالغة الأهمية لأوروبا في إنهاء هذه الحرب بأسرع وقت ممكن، تظل حاضرة، ويمكن لبوتين الاستفادة منها.

كيفما انتهت الحرب، أو كيفما تم إخراج نهايتها، فإن روسيا ستكون أضعف بكثير عما كانت عليه قبلها، والسؤال الذي ستواجهه روسيا فيما بعد، هو كيفية حل التبعات الكارثية لهذه الحرب، وكيف سيواجه بلد خارج من حرب خاسرة، ومحكوم بالطغيان، تبعاتها أخلاقياً، واقتصادياً وسياسياً.

في جانب آخر، يبدو السؤال أيضاً، واجباً، عند تناول الدول التي كانت تسند ظهرها إلى الحائط الروسي، وفي مقدمتها النظام السوري، سيما وأن أخباراً عديدة تتوارد من سوريا، وتقول بتسليم الروس مواقع عسكرية لهم في سوريا لميليشيات إيرانية، الأمر الذي يعني انكفاء الدور العسكري الروسي داخل سوريا، وانحصاره في قواعدها العسكرية على ساحل المتوسط، الأمر الذي يعني أيضاً، استعادة الحرس الثوري الإيراني لكامل سيطرته على القرار السوري، بعد أن تقلص بسبب محاولة الروس الاستحواذ عليه.

إذاً في انكفاء البوتينية السياسية، سيصبح النظام السوري أكثر ارتهاناً للنظام الإيراني، وستصبح محاولات تعويمه عربياً أكثر صعوبة، وسيكون أمامه احتمال وحيد، هو أن تتبنى إسرائيل تعويمه عبر اتفاقات بينهما تتعلق بعلاقته بحزب الله وإيران، وتتعلق بالجولان وتطبيع العلاقات، ورغم أن النظام السوري لا يشترط أي شيء مقابل بقائه في السلطة، فإن الأمر لن يكون متاحاً له كما يشتهي، فهو قد أصبح اليوم أضعف بكثير من أن يختار أي خيار لا توافق عليه إيران.

صحيح أن هذه الحرب أعادت ترميم الصدوع التي حدثت سواء في حلف الناتو، أو في علاقة أميركا بأوروبا، لكن نهاية هذه الحرب لا تعني أبداً أن ما ترمم قد انتهى أمره، وأن ما تم تجاهله تحت دوي مدافع الحرب سيطوى بعدها، على العكس فإن هذه الصدوع ستعود مرة أخرى، لكن بقوة أكبر، وأن تصدّع البيت الأوروبي قد يكون احتمالاً حاضراً أكثر من أي وقت مضى، فالحروب التي تشعلها أميركا في العالم، وترغم حلفاءها على المشاركة فيها، وتكون الرابح الأهم منها، لن تظل المعادلة الوحيدة في إدارة أميركا لمصالحها في العالم، ثمة مصالح أخرى ترى في اعتماد صيغ أخرى ضرورة لا بدّ منها بعد الحدث الأوكراني.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا