هل فشلت “استراتيجية” سليماني في سوريا؟

ربما هي المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عما يُدعى استراتيجية قاسم سليماني، وذلك من قبل وسائل اعلام عبرية تحدثت عن تغيّر في النهج الإيراني في سوريا، ونسبت الفضل في فشل الخطة الإيرانية إلى الضربات الجوية الإسرائيلية التي دمرت نحو 90% من القواعد التي حاول الحرس الثوري الإيراني إرساءها في سوريا. فهل كانت هناك بالفعل خطة لقاسم سليماني يمكن وصفها باستراتيجية تنسب له؟ وما هي الاستراتيجية الجديدة في هذه الحالة؟

بالطبع كانت لسليماني، بوصفه قائد الغزو الإيراني لدول الجوار لأكثر من عشرين سنة، خطة معتمدة من اعلى قيادة في دولته، وقد نفذها بمهارة، وعدلها وكيفها مراراً لتوائم الظروف والمستجدات. وكان يخضع لرقابة وتقييم المرشد الأعلى فقط، وهذا أطلق يده ليجري على خطته التغييرات التي يشاء طالما أنه يحقق الأهداف المتوخاة، وقد اصطبغت خطته ونهجه بسماته الشخصية ومهاراته وتجاربه الذاتية وتأثرات بالمستجدات في الساحة الإقليمية والدولية.

خلاصة استراتيجيته هي انشاء كيانات تحت-دولتية، ودعمها واستخدامها بالتحالف في ما بينها، للفوز بصراعات مع دول الجوار. وقد اقتبس هذا الأسلوب الذي صار سمة حركات شيعية سياسية سرعان ما تتحول إلى قوى مسلحة، من تنظيمات سنيّة وعلى رأسها “طالبان” و”القاعدة”. فأول مهمة أوكلت إليه كقائد لفيلق القدس العام 1998، كانت مواجهة تنظيم طالبان الذي اجتاح مناطق الهزارة الشيعة على الحدود الأفغانية الإيرانية وهجّرهم، وقرعت طبول الحرب على الحدود التي يبغ طولها نحو 850 كيلومتراً. ويقال أن سليماني ضغط حينها لمنع المواجهة العسكرية الواسعة بين جيش بلاده النظامي في معظمه، وتلك الجماعة المسلحة، لأن طهران ستخسر بالتدريج، واقترح احتواء الحدث بالأسلوب ذاته، أي دعم جماعات مسلحة ومليشيات أهلية، وبالفعل أخذ على عاتقه عملية دعم الجناح المعارض لطالبان بشكل تدريجي لتدميره، وهذا ما حدث في نهاية الأمر عندما هاجمت واشنطن أفغانستان، وكان للتحالف الشمالي ولإيران دور أساسي في العملية من خلال المعلومات الاستخباراتية والدعم المباشر.

ولأن الأحداث برهنت على نفاذ بصيرة سليماني، فقد أوكلت له مهمة التوسع في محيط إيران، خصوصاً في الحيز اللبناني، ثم العراقي ثم السوري واليمني، حيث أطلق سليماني عدداً متزايداً من المليشيات التي لم تعد تقتصر على تجمعات الشيعة خارج إيران، بل راحت تستوعب جماعات سنيّة تمكّن من تدجينها في أكثر من بلد، وراح يحركها بمهارة وايقاع متساوق حتى أضحت لإيران دولة حقيقية خارج حدودها يقودها هذا الجنرال الذي لا يتوقف عن التنقل سراً بين مناطق سلطته المتباعدة حتى قتلته طائرة أميركية مسيرة في العراق العام 2020.

في سوريا، لم يغير سليماني نهجه، لكنه اصطدم بعقبات لم يختبرها في المناطق الأخرى، فالتكوين الديني الاجتماعي في سوريا، الذي يدس أدواته عادة بين صدوعه لإحداث شرخ اجتماعي والاستحواذ على كتلة من سكانه يدعمها ويقويها لتهيمن على بقية المكونات، لم يكن مواتياً لخطته. صحيح انه دفع نظام الأسد وشجعه منذ البداية على قتل السوريين في الشوارع، وأشاع بتدخل “حزب الله” والحرس الثوري، توتراً مذهبياً مدمراً، لكنه افتقد في النهاية إلى المرتكز الطائفي المتين لإقامة وترسيخ نفوذه. فالشيعة في سوريا لا تصل نسبتهم إلى واحد في المئة، وتجمعاتهم لا تعدو كونها قرى قليلة ومتباعدة جداً. وما أن ثار النزاع على أساس مذهبي حتى خلا نحو نصفها من السكان، ولم يستطع دُعاته ومبشّريه نشر التشيع في سوريا بسرعة الانتشار العسكري نفسها، وظلت الجماعة العلوية متحصنة بخصوصيتها الدينية ولم تذب في ايديولوجيا الولي الفقيه رغم كل امتنانها لدعمه.

من ناحية أخرى، تدرك عائلة الأسد منذ عهد الأب، أن إيران تريد إدراج العلويين في جمهورها وتحت قيادة حاكم طهران، وأن التنازل عن هذه الكتلة يعني اضمحلال مكانة وسلطة اسرتهم وتلاشيها. لذلك عملوا على صناعة حدود واضحة للعمل الإيراني بعيداً من المجتمع واعتقاداته الدينية، مع الفصل قدر الإمكان بين الولاء “للدولة” أي النظام، وتالياً عائلة الأسد، والعرفان “للأصدقاء” الذي يبلغ مستوى الإقرار بالدور الإنقاذي لهم في الحرب الحالية.

لقد فشلت خطة سليماني في سوريا جزئيا أيضاً، لأنها تقوم على استنهاض اقلية مذهبية وتقويتها داخل حدود بلد ما لتصبح دولة داخل الدولة، وتفرض هيمنتها عليها، من دون أن تنفصل عن جسد تلك الدولة، أي عبر الاندماج في الشأن السيادي، مع الوقاية من الذوبان في الجماعة الوطنية، مثل حالة حزب الله في لبنان والحشد الشيعي في العراق. لكن في سوريا، يمسك السلطة حليفها نظام الأسد، الذي لا يسع إيران سوى تعزيز سلطته والا فقدت مكاسبها، وهذا الحليف يريد لسلطته أن تبقى منفصلة داخلياً عن النفوذ الإيراني، مقابل الانصياع الكامل في المسائل الإقليمية والدولية.

بسبب هذه المعطيات تختلف نتائج عمل سليماني في سوريا عن نتائج غزوه في البلاد الأخرى، ومع إعادة تمكين نظام الأسد قد يعمد خليفة سليماني إلى اجراء بعض التغييرات. فالمليشيات المسلحة التابعة له في سوريا لا ضرورة لها مع وجود مليشيا الأسد التي تم اختراقها إيرانياً بعمق وجرى استتباعها في السنوات الماضية. وإذا كان الانسحاب الشكلي للقوى المذهبية متعددة الجنسيات، التي تم حشدها على الأرض السورية، سيخدم جهود تعويم النظام، فإن تواريها عن الأنظار لن يشكل خرقاً لمشهد الهيمنة العامة، خصوصاً أن فاتورة ذلك الوجود العلني المستفز صارت باهظة على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني تحت العقوبات، إضافة إلى انسداد الآفاق أمام توسعه اجتماعياً في سوريا.

إن ما يتحدث عنه الاعلام الإسرائيلي عن فشل وتغير في استراتيجية سليماني في سوريا، يأتي في سياق ادعاء انتصار لم يتحقق، والقادة والمحللون الصهاينة يغضون البصر قصداً عن جهود التطبيع وشروطها ومقتضياتها الشكلية التي لا بد لإيران من الوفاء بها لمسايرة الأجواء السائدة. ويتجاهلون عن عمد، مثلهم مثل دعاة التطبيع من العرب، إن ما يحدث هو تطوير الحضور الإيراني في سوريا، من مليشيوي، إلى “دولة” معترف بها من جميع الأطراف، وتابعة لها بالمطلق، وهذا في الواقع أحد الأهداف البعيدة لاستراتيجية سليماني، وتتويج لها.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا