هل يحصد الجولاني نصيب الأسد من الصراع؟

يُدرك زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، أبو محمد الجولاني، أن تعويم أي حل سياسي للصراع السوري بناء على قرار مجلس الأمن 2254 سيكون على حساب محاربة نفوذه في سورية، وتقليص مساحة سيطرته، وتوحيد جميع البنادق في خندق واحد ضد الإرهاب، والذي يمثل فصيله العسكري المصنّف على قائمة الإرهاب أحد وجوهه في سورية، إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ما يعني أن الجولاني يربط وجوده في سورية باستمرار الصراع الحالي، الداخلي: بين قوى المعارضة والنظام من جهة، وبين المعارضة المدعومة تركياً ضد الفصائل الكردية (قوات سوريا الديمقراطية “قسد”) من جهة ثانية، وأيضاً بتضارب مصالح الدول المتدخّلة في الملف السوري.

واقع المصالحات العربية والإقليمية الحديثة مع النظام السوري، خارج إطار الحل السياسي الشامل، والقرارات الدولية، ومحاولات تجاوز قانون العقوبات الأميركي، وضع هيئة تحرير الشام أمام تحدّيات وجودية، استدعت تغيير قناعها “من شرعي إلى مدني” وخطابها وشروط التفاهمات العسكرية معها، لتضمن توسيع دائرة نفوذها على الصعيدين، الشعبي والمسلح، ما اقتضى التحرّكات الجديدة للهيئة على الصعيدين، المدني والعسكري، لاحتواء أي تحوّلاتٍ داخليةٍ في المشهد السوري. على الصعيد المدني، يحاول الجولاني الاستثمار في مشاعر الغضب لدى الشارع السوري المعارض للمصالحات العربية، والتركية، مع النظام، بفتح المجال للمظاهرات المناهضة لهذه التحوّلات في المواقف، وإيجاد سبل للحوار مع المنظمات المدنية، لإعطاء مساحات أكبر لخدماتها، وهو ما جعله يعتقد أن دائرة نفوذه الشعبية صارت تقارب واقع قوته العسكرية أو تتساوى معه، ويخاطب الناس من بوابة الثورة السورية التي لم يكن يعترف بها أو لها بأي نفوذ، بل كان في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع كل انعكاساتها وشعاراتها وعلمها، وهو الذي وصف مشروعه سابقاً بالجهادي الإسلامي لتحكيم الشريعة، والذي يتناقض مع مشروع الثورة التي تسعى إلى الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية.

لقد استغل الجولاني غياب الخطاب المعارض الثوري المفترض أن يقوم به الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ليكون خطابه الوحيد هو الحاضر على المنصّات الإعلامية للدفاع عن الثورة، معتبراً أنها “قوية وتمتلك أوراقاً قوية”، مرجعاً أحد أسباب قوتها إلى “أن المجتمع المدني منسجمٌ مع الحالة العسكرية”، بمعنى أنه يستند إلى الحاضنة المدنية في مشروعه التوسّعي، على حساب مناطق المعارضة الغارقة في بحر من الفوضى، والتصادم مع سكان مناطقها.

وعلى الصعيد العسكري، يتحرّك الجولاني بما يسمح له أن يكون القوة الثالثة على الأرض، بين النظام السوري وتركيا في مباحثاتهما المشتركة لإعادة تطبيع العلاقات. وسواء كانت هذه التحرّكات بالاتفاق مع طرفي التفاوض، أو أحدهما، أو بخلاف رغبتهما، فإن توسيع نفوذ الجولاني في سورية ومد سيطرته على مناطق الفصائل المعارضة، يتيح للتفاهمات التركية مع النظام مرونة وضع خريطة جديدة لواقع النفوذ على الأرض السورية، بحيث تتجمّع القوى الرافضة للتطبيع تحت مظلة هيئة تحرير الشام، وبعيداً عن حرج تركيا بتسليم مواقع لا ترغب أن يكون النظام السوري فيها، كما أنها تبقيه فزّاعة للقوى الكردية، في حال لم يستطع النظام تقييد نفوذها.

تقضي عملية تطبيع العلاقات تسليم تركيا مناطق للنظام السوري، تقع تحت نفوذ فصائل تعيش على الحرب، ما يستوجب البحث لبندقيتها عن مكانٍ يستوعبها، حيث لن يقبل النظام بها، أو أنها لا تأمن العودة إليه، والانخراط في صفوف جيشه، ما يرجّح أن عملية التقارب الفصائلي مع “النصرة” قد تكون نابعةً من حفاظ تركيا على مصالح هذه الفصائل، وضمان مكان لها في مساحةٍ تبقى فاصلة بينها وبين النظام، بقوةٍ لا تخشاها تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية، وفي الوقت نفسه، قد تكون ذراعا للحزب في حال مغادرته كرسي الرئاسة، ليكون نشاطه حاضرا حين الحاجة داخل الأرض السورية وخارجها.

تبدو مناطق درع الفرات (تتقارب بعض فصائلها اليوم مع الجولاني) أكثر المساحات المرشّحة لعودتها إلى حكم النظام السوري، بعد أن يستعيد معبر باب الهوى وفق تفاهمات آستانة، أي أن التحوّلات تبدأ من أعزاز إلى تل أبيض ورأس العين، وأيضاً بعض مناطق غصن الزيتون، مثل عفرين وبعض ريفها، بينما تبقى منطقة تل حديد جنديرس التي يقع فيها معبر الحمران الذي افتتحته تركيا واستولت عليه الهيئة، ورفضت تسليمه للحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، وكذلك المناطق المحاذية لريف حلب الغربي مع إدلب تحت حكم الجولاني.

ويعدّ تسليم عفرين للنظام السوري أحد أساسيات التفاهمات بين الطرفين، ليتمكّن النظام من الإمساك بالملف الكردي، وتفريغ شرق الفرات من مهجري عفرين (نحو 300 ألف) لإعادتهم إلى ممتلكاتهم، مقابل إعادة دراسة ملف مهجّري الغوطة وريف دمشق الذين يسكنون حالياً في عفرين. ومن هنا يمكن أن نفهم أهمية ورقة عفرين لتركيا، التي دافعت عن بقاء عفرين بيد الفصائل ضد إرادة الجولاني ومحاولاته غزوها، وأهمية عفرين للنظام السوري ليُمسك بملف الأكراد، ويفاوض على ملف مهجري الغوطة من جهة مقابلة.

في غياب كيانات المعارضة عن واقع الأحداث الساخنة في الملفّ السوري، وجد الجولاني فرصته ليكون حاضراً، بوجهه الجديد المختلف عن صعوده الأول في الإعلام جهاديا “قاعديا”، من غير صورة لوجهه، إلى قائد يتحدّث باسم الثورة السورية، ويعلن أهدافها ويشن باسمها معاركه، التي، حسب كلمته خلال معايدة الوجهاء والكوادر العاملة في المناطق المحرّرة: “باتت معالمها واضحة، ولم يعد لدينا خيار سوى التقدّم العسكري”، أي أنه يقصد ما قاله فعليا باستطاعته قلب الطاولة، والعودة إلى الصراع المسلح وفق رؤيته، وأهدافه، وتوقيته، ليضع السوريين بين خيارين، إما الاستمرار بالثورة تحت قيادة الفصيل المصنّف إرهابياً، أو الانسحاب منها والتسليم بهزيمتها، وبينهما تضيع حقوق مئات آلاف الشهداء وحلم السوريين بدولةٍ تحفظ كرامة مواطنيها وحقوقهم، فهل يخدم الجولاني النظام في تصريحاته العسكرية، أم يخدم مسار التفاوض على تقسيم سورية ليكون له منها نصيب الأسد أو ما يقارب ذلك؟

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا