هل يمكن التخلص من التركة الترامبية؟

واضح أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لن يسلّم بخسارته الانتخابات الرئاسية بسهولة، لكنه حتى وإن اضطر إلى ذلك تحت ضغوط داخلية مختلفة، فإن تركته ستظل باقية، وتشكل حملاً ثقيلاً على الرئيس الجديد، جو بايدن، وإدارته، وعلى الولايات المتحدة ونظامها وديمقراطيتها ومؤسساتها، وعلى المجتمع الأميركي. وإذا كانت نتائج الانتخابات الأولية قد أكدت فوز بايدن وحصوله على أصوات 75 مليون ناخب أميركي، فإن ترامب حصل في المقابل على ما يقارب 71 مليون صوت، ما يعني أن جمهوره ما يزال باقياً، خصوصا إذا استمرت سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ، الأمر الذي يشير إلى استمرار تأثير النزعة الترامبية في المجتمع والمؤسسات الأميركية، بعد أن تحول الحزب الجمهوري، بزعامة ترامب، إلى حزب يميني متطرّف، ابتعد عن قيم اليمين التقليدية، وسيطرت عليه شخصيات متشدّدة، ستعمد إلى وضع العراقيل والعقبات أمام الرئيس الجديد.

وقد أظهرت نتائج الانتخابات مدى الانقسام في المجتمع الأميركي، حيث بلغ الاصطفاف والتجييش درجةً غير مسبوقة عبر تقسيمها إلى أميركا حمراء وأخرى زرقاء، ونتيجة أربع سنوات من ممارساتٍ لترامب شعبوية، حارب فيها المؤسسات والديمقراطية الأميركية. وقد شكك في النظام الأميركي، وخاض حرباً على وسائل الإعلام لنزع صدقيتها، وأظهر قدرة لافتة على صنع المفاجئ واللا متوقع، وإثارة الزوابع والعواصف، وامتلاكه قدرة استثنائية في الاستعراض وخطف الأضواء وخلط الأوراق، فراح يحكم ويتحدّث باسم الأميركيين ذوي البشرة البيضاء، وخصوصا الإنجيليين والعمال غير المتعلمين وأبناء الأرياف، مقدّماً نفسه مخلصاً وممثلاً عنهم، فيما مارس عنصريةً حيال باقي الأميركيين السود واللاتينيين والآسيويين، حيث استخدم الخطاب العنصري لدى ترامب وجماعات اليمين المتطرّف الأميركي آليات اشتغال مفبركة، تنهض على ديماغوجيا الإثارة والتحريض، في عمليةٍ تمثله للآخر، من خلال السعي إلى إبراز أبعادٍ متخيلةٍ في هذا التمثيل، من حيث كونها صوراً نمطية وأحكاماً ومواقف مسبقة، تشيطن الآخر، وتحوله مسخا يتوجب التخلص منه بشتى الطرق.

وقد بنى ترامب خطابه السياسي على عنصرية الرجل الأبيض، الممزوجة باحتقار قيَم التسامح والعدالة وحقوق الإنسان، وبكراهية للنُخب السياسية والأحزاب ومؤسّساتها، بوصفه الرجل الأبيض القوي، الذي من حقه حكم البلد الأقوى في العالم، على الرغم من كونه شديد الفظاظة والسوقية والشعبوية، ويصدر عن نزعةٍ عنيفة، ولا يتردّد في الإفصاح عن تمسّكه بِقيم شديدة المحافظة والرجعية. وأصدر قرارات عنصرية عديدة، إلى جانب تغريداته العنصرية التي طاولت المهاجرين والمسلمين وسواهم، وطاولت أيضاً أربع نساء من الحزب الديمقراطي، وعضوات في مجلس النواب الأميركي، بسبب أنهن لسن بيضاوات، ووصل به الأمر إلى حدّ مطالبتهن بالعودة إلى بلادهن، على الرغم من أنه يعلم تماماً أنهن ولدن وعشن حياتهن كلها في الولايات المتحدة، لكن عنصريته المبنية على أفضلية الرجل الأبيض وتفوقه وضعتهن في خانة الآخر المختلف، والدوني المنحدر من أصول إفريقية وآسيوية ولاتينية.

وتجسّد الشعبوية الوجه الأخطر من التركة الترامبية، بوصفها نزعة جاذبة وباقية في المجتمع الأميركي، وتمثل موجة عالمية، تجد تحققها في قيادات وأحزاب حاكمة في دول أوروبية، خصوصا بريطانيا وإيطاليا والنمسا وهنغاريا، وأيضاً في البرازيل والهند والفيليبين وسواها، وتوظف بشكل إرادوي مسائل وقضايا تتعلق بمصالح الفئات الشعبية المحرومة، وامتدت لدى ترامب إلى التهديد بتقويض مبادئ وقيم ديمقراطية أساسية، مثل الانتقال السلمي للسلطة، مع التشهير بالنظام الديمقراطية وترويج فكرة سرقة الانتخابات من دون تقديم أي دليل ملموس.

وعلى المستوى الدولي، تعامل ترامب مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومع اليابان وكوريا الجنوبية ودول الخليج العربي ليس كحلفاء أو شركاء، بل على أساس أن الولايات المتحدة شركة أمنية أو “بندقية للإيجار”، وعلى الدول أن تدفع الأموال مقابل حماية أميركا لها. ولم يكف ترامب عن التهجم على المؤسسات والمنظمات الدولية والأممية طوال سنواته الأربع في البيت الأبيض، فانسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ومن اتفاقية باريس للمناخ، ومن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، ومن الاتفاق النووي مع إيران، ومن اتفاقيات الحدً من التسلح مع روسيا، ومن اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان. وخاض ترامب حروباً تجارية على جبهات عدة، وخصوصاً مع العملاق الصيني، بغرض تقليص العجز التجاري للولايات المتحدة، ولكن ذلك لم يحقق له سوى مكاسب ضعيفة، وأفضى إلى إلحاق ضرر طويل الأمد بالاقتصاد التعددي.

ولعل تعامل ترامب وإدارته مع جائحة كورونا أظهر مدى استخفافه بأرواح الأميركيين وصحتهم، حين عمد، في بدايتها، إلى إنكار وجود الفيروس، والتخفيف من خطورة “الفيروس الصيني” من أجل الحفاظ على الاقتصاد، وخوفاً من فشله في الانتخابات الرئاسية. ثم روّج أدوية معينة أثبتت عدم نجاعتها، وتحدّث، في أكثر من مناسبة، عن إمكانية التوصل إلى اللقاح قبل موعد الانتخابات الرئاسية، ووجه انتقادات ضد الدولة العميقة، مع توبيخ العلماء والأطباء والخبراء الذين يخالفونه فيما يذهب إليه.

قد يكون من الأسهل للرئيس الجديد بايدن أن يتعامل مع تركة ترامب الثقيلة على المستوى الدولي، بما يعيد تطبيع العلاقات مع العالم والإيفاء بالتزامات الولايات المتحدة مع حلفائها والعالم، لكن المهمة أصعب على مستوى الداخل الأميركي، فالشعبوية ليست حالة عابرة يمكن التخلص منها بسهولة، إذ يمتلك الشعبويون رصيداً كبيراً في المجتمع الأميركي، ولديهم القدرة على طرح أنفسهم ممثلين للشعب في مواجهة النخب الفاسدة، إضافة إلى أن الشعبوية نشأت من قلب الولايات المتحدة، نتيجة الأزمات الاجتماعية والإشكالات الكامنة فيها، والضرر الذي ضرب الطبقات الوسطى والعاملة بسبب جشع الشركات، وشعور قطاعات واسعة من الأميركيين بالخيبة من النخب السياسية وفقدت الثقة بها. وإن كان ترامب قد أوصل الشعبوية إلى ذروتها، فإن التخلص منها يتطلب عملاً كبيراً وجهوداً لا تهدأ لإزالة أسبابها وحيثياتها.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا