يحدث في دمشق وجنيف

يتلاشى تدريجاً غطاء الأمان الطبي الشعبي الذي يقدّمه أطباء سورية لمحيطهم الاجتماعي، في ظل جائحة فيروس كورونا التي تلتهم السوريين كأحد أنواع الموت الذي يجول بينهم. وبينما كان ضجيج الموت عالياً في السنوات العشر الأخيرة في عموم البلاد، وتحت عيون كاميرات الإعلام واجتماعات المجتمع الدولي، وقرارات الأمم المتحدة غير النافذة لإنهاء الصراع في سورية، التي أصبحت تتشابه مع قراراتها الخمسين السابقة في ما يتعلق بالأراضي السورية المحتلة التي بقيت قيد الأدراج منذ عام 1977، أخذ “كوفيد 19” يتسلل بصمت إلى حيوات الشعب السوري، ويخطفها تحت جنح عقوبات النظام لمن تسوّل له نفسه إعلان إصابته، في عملية إنكار جديدة لحقائق ما يحدث على الأرض، التي تعوّد ممارستها في حربه على شعبه ومنعكساتها على واقعهم الاجتماعي والاقتصادي والحياتي.

واليوم تقع المحافظات جميعها، بدءاً من دمشق العاصمة، وصولاً إلى مناطق سورية خارج سلطة نظام الأسد، تحت استبداد الجائحة الفيروسية (كورونا)، وسط تغييب معلوماتٍ حقيقية، سواء عن الإصابات نفسها عدداً وتوزيعاً جغرافياً وأسباب انتقال العدوى، أو عن واقع القطاع الطبي وعدد ضحاياه، في الوقت الذي تنتشر فيه على صفحات سورية كثيرة “نعوات” لأهاليهم وأقربائهم، كذلك تنشر مجموعات أخرى أسماء أطباء غادرونا بسبب إصابتهم بالفيروس، ما يكذّب أرقام السلطة الحاكمة، ويؤكد تجاهلها أهم عوامل الحماية لأكثر القطاعات المؤثرة في حياة الناس، فحيث تفقد سورية شبكة أمانها من الأطباء الخبراء، يفقد – في الوقت نفسه – آلاف السوريين مع كل وفاة طبيب فرصة استطبابهم، ما يضع علامات استفهام كبيرة على تجاهل النظام حماية هذا القطاع.

صحيحٌ أن ممارسة الحرب على سورية لم تستثنِ أي شريحةٍ من المواطنين على مدار السنوات العشر، ولكن في ظل واقع عام دولي موبوء بالفيروس، يصبح الاستهتار باتباع وسائل الحماية التي تتحمّلها الدولة عادة مشروع إعدام جماعي غير مكلف، كما هو واقع الإعدامات التي نفذها النظام بحق أحياء ومدن مع سكانها، والأمر على الجهة المقابلة لمناطق خارج سيطرته لا يقل سوءاً عنه، ما يجعل كل السوريين يعيشون بين حكمين متشابهين، إدارة وعنفاً واستبداداً، ما يصعّب اختيار أفضل السيئين بينهما، وهو ما جعل التعاطف مع ثورة الكرامة يتناقص يوماً بعد آخر، بين مؤيديها قبل الحياديين تجاهها، في ظل تشابه البدلاء قولاً وفعلاً.

وفي خلال ذلك، نجح النظام السوري في تجنّب تنفيذ القرارات الدولية، وترك العقوبات الأميركية المفروضة عليه تقتصّ من شعبه، وتابع سياسة امتصاص شدّة العداء بمرور الزمن، وقد بدأت فعلياً نتائجها بالظهور، وهذا يبدو واضحاً من التصريحات الأميركية التي تلين شيئاً فشيئاً، على الرغم من التهويلات والتشبث بها حبل نجاة للمعارضة السورية، مخافة انتهاء دورها المرسوم.

ولعل الشروط الأميركية الخمسة التي أعلنها المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، في مؤتمر صحافي (عبر الفيديو الخميس، 14 أغسطس/ آب الحالي)، والتي تستمد رؤيتها من إجراءات الثقة التي طالب بها قرار مجلس الأمن 2254 الصادر عام 2015 تمثل ما يمكن القول إنها تراجع ضمني عن إلزام النظام بمقتضيات قانون قيصر الأميركي الذي بدأ العمل فيه منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي، الذي يقضي بإحالة كامل نشاطات النظام الاقتصادية، ومن يتعاون معه، إلى الجمود الكلي. ولكن ما تتضمنه هذه الشروط، وأولها وقف استخدام المجال الجوي لاستهداف المدنيين، في وقت أنهى فيه النظام استعادة خريطة سورية التي يريدها، وقتل منذ استصدار القرار الأممي آلافاً وشرّد ملايين بسبب هذا “الاستخدام” للمجال الجوي، أصبح متأخراً جداً، بعد أن سقط مئات آلاف من الضحايا السوريين، تحت وابل البراميل المتفجرة. ومن المفيد التذكير دائماً بأن النظام استخدم الجو في قصف المدنيين، لكن هذا القرار كان يجب أن يكون ملزماً منذ سنوات، لتجنب كل الكوارث وليس بعدها.

أما ما بقي من الشروط، فهو تأكيد سيادة النظام في أن يكون وحده القادر على صناعة الحل السياسي، حيث الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وهو مكرمة منه، يجري ترويجه عبر الإعلام يومياً، مع تجاهل أعداد المغيبين والمقتولين تحت التعذيب، ما يعني أن النظام قادر على تنفيذ جزئي وإعلاني، حيث تغيب الإحصائيات وشروط مراقبة تنفيذ هذا الشرط. والنظام اليوم في أشد الحاجة إلى المساعدات الأممية، بسبب ما أوصل البلاد إليه من فقر وجوع باتا السمتين العامتين للسوريين، حيث تجاوزت نسبة الفقراء 84% من السكان، وأصبح متوسط الدخل السنوي بين الأقل عالمياً. وعن شرط السماح بعودة اللاجئين الطوعية من دون ملاحقة، يمكن النظر إليه حلاً لقضية الدول المجاورة المثقلة بهموم اللاجئين، باعتبار أنها عودة تسبق توفير البيئة الآمنة التي أساسها سيادة القانون، وإبعاد حكم الأجهزة الأمنية عن رقاب السوريين.

على الرغم من أن العدالة التي يطالب بها السوريون لم ينسَها المبعوث الأميركي أيضاً، لكنه أوردها من دون تحديد الجهة التي ستقوم بالمحاسبة العادلة لمرتكبي جرائم الحرب، وما إذا كان هذا المطلب من بشار الأسد جزءاً من برنامجه الانتخابي القادم، أم يشمل “عمل الأسد الشرير” حسب تعبير جيفري؟ ومن هنا يمكن السؤال عن البديل الذي يمكن أن تصنعه جلسات اللجنة الدستورية المقبلة (24 أغسطس/ آب الحالي)، وعن البيئة الآمنة التي توفرها جنيف، كما يقول جيفري، فهل البيئة الآمنة التي ورد ذكرها في القرارات الدولية تعني تلك التي تحيط بمكان الاجتماع المنعقد، أم أنها البيئة الآمنة التي يجب أن يعيشها الشعب السوري، بكامل اختلافاته السياسية والقومية والمذهبية؟ وهل المجتمعون يملكون سلطة اتخاذ القرار، باعتبارهم يجتمعون في أكثر المدن الآمنة، ويقضون ما بقي من مساءاتهم في شوارعها؟ أم أنها مجرّد مراوغة جديدة، يجري فيها ترحيل رغبة السوريين بإنهاء مأساتهم إلى ما بعد تجديد ولاية الأسد المقبلة (2021)، كما كان الحال قبيل ولايته السابقة 2014، التي فاز فيها حسب ادعاء النظام بأكثر من 88% من الأصوات، وحينها كان أكثر من نصف الأرض السورية خارج سيطرته؟

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا