مهزلة رامي مخلوف وبشار الأسد

كنّا في الحركة السياسية السورية نحار في توصيف نظام آل الأسد الحاكم في سورية. ولبرهة، وجدنا في مفهوم “البورجوازية البيروقراطية” مصطلحا مناسبا لوصف النظام السوري.
ولكن هذا المفهوم الذي كان ممكنا في السنوات الأولى من حكم الأسد الأب بات غير واقعي حين أفلت الأسد عقال أقاربه وأنسبائه، وأباح لهم تحويل البلاد إلى مزرعةٍ مستباحة لهم. واقترح بعضنا مقاربة بين نظامي الأسد الأب ولويس بونابرت (نابليون الثالث) في فرنسا (1851 – 1970)، واستندنا إلى ذلك بمقالة كارل ماركس “برومير الثامن عشر الخاص بلويس بونابرت”، والتي ناقش فيها الانقلاب الفرنسي عام 1851 الذي استحوذ لويس نابليون بونابرت من خلاله على سلطات دكتاتورية، مستفيدا من التوازن بين شرائح البورجوازية الفرنسية وعدم وجود شريحة مهيمنة بينها. ولكن الشبه بين حافظ الأسد ولويس بونابرت معدوم تقريبا، فالأخير كان مسكونا بهاجس التقدّم وتحسين الأوضاع الاجتماعية في فرنسا، وهو، على الرغم من تفاهة شخصه، من قام بنهضة اقتصادية باهرة، وكلّف مجموعة من الاقتصاديين والسياسيين، في مقدمتهم الاقتصادي والمهندس وعالم الاجتماع، فريدريك لو بلاي، في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلد، وعينه مستشارا اقتصاديا للدولة، ما أسهم إلى حدّ كبير في نهضة اقتصادية للبلاد.
أحببناه أم لا، سيكون من الصعب ألا نقرّ بأن لويس بونابرت هو من جعل باريس المدينة التي نعرفها، فأعاد بناءها من ظلام العصور الوسطى وحوّلها إلى مدينة مخططة جديدة بأحدث التقنيات المتاحة آنذاك. وأنشأ العديد من الجادات الواسعة المحاطة بالأضواء والأشجار جنبًا إلى جنب مع المباني على طراز الفن الجديد (الآرت نوفو)، كجادة الشانزليزيه الشهيرة. واستخدم أهم الفنانين والمعماريين، من مثل بارون هاوسمان، لتصميم الحدائق والمدارس ومحطات القطار والمراحيض العامة التي لا تزال تستخدم في باريس. وتم ترميم الكنائس التاريخية بأعمال يوجين ديلاكروا.
وحتى الشبه من حيث سياسة القمع بين الأسد الأب ولويس بونابرت يبدو هزيلا. وعلى الرغم من أن بونابرت قام بممارساتٍ قمعية واستبدادية، غير أنها وقفت عند حدود لم تتجاوز عزل معارضيه، وربما نفيهم، والرقابة على الصحافة، والتلاعب بالانتخابات البرلمانية وحرمان البرلمان من الحق في النقاش أو ممارسة أي نوع من السلطة، من دون أن تتطوّر إلى تعذيب خصومه وحبسهم عقودا وقتلهم وأخذ أهاليهم رهائن، كما فعل الأسد الأب ووريثه. ومع ذلك، فحتى لويس بونابرت نفسه قام بتخفيف هذه الضوابط بعد عدة أعوام، لتنتقل فرنسا إلى مرحلة “الإمبراطورية الليبرالية”.
شخصيا حرت كثيرا في توصيف نظام الأسديْن، وبخاصّة الأسد الأب، الذي كان يتمتّع بذكاء نادر وقدرة هائلة على المناورة، مع قدرٍ مريع من القسوة والوحشية جعلت كلّ السوريين في حالة خوف ورهبة دائميْن. ثمّ جاء الوريث الصغير، فتوضّحت الصورة أكثر.
لعلّ أقرب تشبيه لوصف عائلة الأسد هو البحث عن أوجه الشبه بين عائلته وعائلة دون كورليوني في رواية “العرّاب” لماريو بوزو. العرّاب، دون كورليوني، هو مهاجر إيطالي من أصل صقلي قام ببناء إمبراطورية الجريمة المنظمة في نيويورك. قاتلٌ بارد وزعيم عصابة، ولكنه يتمتّع بلطف بادِ، ويصفه مؤلّف الرواية نفسه بأنه “رجل لطيف، ذو جوهر وتقليد وكرامة وصقلي، رجل غريزي لا يخطئ”.
نظام عائلة الأسد نظام مافيوزي (نسبة للمافيا) بامتياز، ويتمتع بكل سماته المافيوزية، بأسلوبها الأخطبوطي متعدّد الأذرع، ونظامها العائلي الذي يقوم على سلطة الأب، ومن ثمّ من يخلفه، ثمّ يعزّز ذلك من خلال المصاهرة؛ أضف إلى ذلك الفقر إلى الثقافة والتعليم مع الحرص على شراء الشهادات العليا أو سرقتها، وبجذورها الفقيرة التي تعوّض عنها من خلال الإثراء السريع عبر النهب ومراكمة الثروات من خلال استغلال السلطة واحتقار سيادة القانون؛ والسلوك المعادي للمجتمع، وهي السمة التي توحّد تقريبا الشخصية المافيوزية، وتكمل العناصر الأساسية للعقلية المافيوزية.
مشكلة النظام المافيوزي تكبر حين يستلم مقاليد العصابة رجلٌ ضعيف، محدود الأفق، كبشار الأسد، كان مثار سخرية عائلته، ومحطّ تنمّر أخيه باسل الذي قضى في حادث سيارة، واستعلاء أخته الوحيدة وسخريتها منه، وهي التي كانت ترى نفسها مؤهلةً أكثر لقيادة العائلة، لولا العقلية البطريركية. وإذا صدّقنا رواية سام داغر، كان باسل الأسد تنمّر على أخيه الضعيف والخجول الذي كان يختفي من نادي الفروسية كلّما رأى أخاه مقبلا.
غالبا ما يكون الشخص الضعيف أخطر، إذا تمكّن، لأنه يريد أن يثبت لنفسه وللآخرين العكس. والحال أن بشار الأسد فاق أباه دموية ورعبا وقتلا، بشكل أساسي لأنه يريد أن يزيل صورة الولد الخجول المدلّل الذي كان يستظلّ بأمه، ولا يلحظ أحدٌ وجوده، في حضور أبيه أو أخيه.
المافيوزية هي التفسير الوحيد لانهيار إمبراطورية آل مخلوف التي ما كنا نحسب أن يوما سيأتي ونراها تنهار، وهي التفسير الوحيد للمشهد الهازل الذي بدا فيه رامي مخلوف قبل أيام، وهو يستعطف ابن عمته، ويرجوه أن يأخذ قسما مما لديه ويترك له بعضه. في النظام المافيوزي لا وجود لحق في الملكية، فالمُلك كلّه لزعيم العصابة الذي يعطي من يشاء ويمنع عمّن يشاء. ولا يوجد لسيادة قانون يحدّد الحقوق والواجبات، ويضع الجميع سواسية أمام القانون، وتعود إلى نصوصٍ معيّنة لتبحث في الجريمة والعقاب، فالعرّاب هو القانون، وقوله هو النصّ، وكلمته هي الحكم القاطع والنهائي، فإذا كان هذا العرّاب مشوّشا وضعيفا وخاضعا لقوى خارج عصابته، باتت العصابة كلّها في فوضى، ولا يعلم أحد أيّ مصير ينتظرها، وينتظر من ورائها بلدا حَلَبَتْه وأنهكته وخرّبته، فتركته أرضاً يباباً.
ولذلك ما كان على رامي مخلوف إلا أن يرمي بكل ما لديه على المائدة، ويلعب آخر دور له في المهزلة السورية، ولسان حاله يقول “إما أن نغرق معا أو ننجو معا”، فيُظهِر نفسه بمظهر الضحية، ولم يرَ أفضل من أن يلبس لبوس الورع والتقوى، فيستعيد مرّة ومرّة كلمات مثل “كن مع الله ولا تبالِ” أو “لا حول ولا قوّة إلا بالله”، أو “العاطي هو الله”، ثمّ اختار أن يجلس على الأرض في وضع يذكّر بالمتصوّفة، واختار اللهجة الدمشقية التي يستعملها مشايخ الشام عادة، فبدا بذلك أقرب إلى الذئب الذي لبس ملابس الجدّة، ليخدع ليلى. غير أن ليلى السورية لن تُخدَع من جديد، فذلك عهد مضى وانقضى.
المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا