لا مصالحة بين الجماهير والعقل؟ (2/ 2)

(خاص السورية. نت 24/ 12/ 2014)

(2/ 2)

يرى لوبون خلفية دينية لكل قناعات الجماهير وفي رأيه تحمل قناعات الجماهير في فترات الانتفاضة السياسية خصائص العاطفة الدينية حتى لو لم تكن في ظاهرها دينية: عبادة إنسان خارق، الهيبة إزاء القوى التي تعزى إليه، الخضوع الأعمى لأوامره، استحالة مناقشة عقائده، الميل إلى معاداة رافضي تلك العقائد. وعنده أن التعصب وعدم التسامح يشكلان المرافق الطبيعي للعاطفة الدينية، والتعصب الديني حتمي لا بد منه حتى لو انتقل المرء من الدين إلى الإلحاد، ولوبون يذكر مثال دستويفسكي الذي كان متديناً ثم نبذ الدين وكسر صور القديسين وأطفأ الشموع الموقدة أمامها، ولكنه وضع بدلاً منها كتب الفلاسفة الملحدين وأعاد إشعال الشموع أمامها! (ص45).

 حاشية على روح الجماهير (صعود الحضارات وانحطاطها)

محمد عبد النور

الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2014

154 صفحة

ويناقش لوبون العوامل العميقة المشكلة لعقائد الجماهير وهي عنده: أ- العرق، والبيئة والظروف لا تمارس إلا تأثيراً مؤقتاً إذا كانت من طبيعة مضادة للعرق. ب- التقاليد الموروثة، وهذه أيضاً متحدة مع العوامل العرقية. ولا يوضح المؤلف موقفاً من هذا الرأي لكن يبدو أنه يريد إعادة استخدام هذا الافتراض لصالح نوع من “نزعة تأصيلية” فهو يقول: “القائد الحقيقي هو ذلك الذي يتفهم التقاليد الأصيلة للأمة حتى يستطيع قيادتها وفقاً لذاتها الثقافية فلا يعاكس روحها” (ص49). ويسعى الإنسان إلى خلق شبكة من التقاليد ثم يسعى إلى تدميرها عندما تكون قد استنفدت مخزونها المؤثر والإيجابي، وتكمن الصعوبة في إيجاد التوازن بين المحافظة والتغيير (ص50). ج- الزمن. د- المؤسسات السياسية والاجتماعية، ورهن التغيير بها وهم كبير: “المؤسسات والحكومات تنتج عن طبيعة العرق، وبدلاً من أن تكون خلّاقة العصر فهي مخلوقته” (ص52). ولا يوضح المؤلف إن كان هذا حكماً على محاولة التغيير، ومع أنه يقول إن “المؤسسة التقليدية في البلاد الإسلامية تواجه مصيرها المحتوم سواء بضرورة إعادة صياغتها أو بفقدان دورها الاجتماعي”، ويضرب مثلاً مؤسسات الأزهر والزيتونة وحتى المجامع العالمية المرتهنة لأشكال قديمة، ولكنه يعود ليؤكد عدم جدوى محاولة تغيير المؤسسات “لأن الشعوب تبقى محكومة بخصائصها وطباعها” لذلك تزدهر الولايات المتحدة وتعيش أمريكا بشكل خامل رغم تشابه المؤسسات. (ص53). هـ- التربية والتعليم: تهتم مؤسسات التعليم بتطوير القدرات الذهنية دون اهتمام برفع المستوى الأخلاقي والعملي للفرد وهي تعدّ الطلاب فقط لتولي وظائف عامة وحين لا تستطيع توفيرها يتحول الخريجون إلى أعداء للدولة مثلما حصل في الحراك العربي برأي المؤلف (ص55).

 العوامل العميقة المشكّلة لعقائد الجماهير: العرق والبيئة، التقاليد الموروثة، الزمن، المؤسسات الدينية والاجتماعية، التربية والتعليم.

العوامل المباشرة المشكّلة لعقائد الجماهير: الرموز، الأوهام، التجربة، العقل.

العوامل المباشرة المشكلة لعقائد الجماهير برأي لوبون هي التالية: أ-الرموز: وهي ارتباط للكلمات بصور، فإن كرهت الجماهير الكلمات لكراهيتها للصور التي ترافقها لجأ رجل الدولة لتغيير الكلمات مع إبقاء المضمون مثل تغيير اسم الضريبة باسم المساهمة المالية! (ص59). ب- الأوهام: لا يمكن للبشر في رأي لوبون أن يعيشوا بلا أوهام ولذلك احتاج الفلاسفة والعلماء إلى خطباء وأدباء لتوصيل أفكارهم إلى الجماهير في قالب الأوهام التي تمنحهم الأمل! (ص 62). ج- التجربة: على الرغم من ذلك تبقى التجربة هي الوسيلة لزرع حقيقة في روح الجماهير، لكن لوبون يعود بعد تقرير ذلك للقول إن التجربة هي التي ستزيل أوهام بناء المجتمع على أساس العقل الخالص! (ص64). د- العقل: ويقول المؤلف إنه لا لزوم للحديث عنه بعد كل ما تقدم! ويضيف المؤلف أن الناس المنطقيين المعتادين على الحجج والبراهين يصابون بالدهشة عندما لا يلقى كلامهم صدى عند الجماهير لأن قيمة العقل ضعيفة ولا وزن لها يذكر في التأثير أو التوجيه! (ص65).

يرى لوبون أن الجماهير تحتاج إلى نبي، وحيث أنه لم يظهر نبي منذ مدة طويلة فإن العلم الآن سيقوم بهذا الدور! ويرى المؤلف أنه حيث أن المسيحية ينقصها البعد الزمني فقد اختارت الكنيسة العلمانية لتكون الوسيط الذي ينقل الروح الدينية إلى الحياة، ونجا الإسلام من هذا المصير لأن النص الديني هنا يتناول الشأن الدنيوي وهذا من معاني حفظه “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (ص78).

ويرى المؤلف أن المؤسسات الدينية التي تحاول عبر التخصص إنشاء نوع من الكهنوت في الإسلام لا محل لها من الإعراب لأنه في النموذج القرآني تستحيل قيم العلم إلى معايير أخلاقية وعملية قبل كل شيء (ص78).
يبحث الناس بشكل غريزي عن زعيم، ومن مواصفات “الزعماء” أنهم ليسوا من رجال الفكر بل من رجال الممارسة، فرجل الفكر من صفاته الشك وهذه الصفة تتناقض مع صفة الزعيم التي هي اليقين الذي يعطيه قدرة تأثيرية عظيمة.

 يبحث الناس بشكل غريزي عن زعيم، ومن مواصفات “الزعماء” أنهم ليسوا من رجال الفكر بل من رجال الممارسة، فرجل الفكر من صفاته الشك وهذه الصفة تتناقض مع صفة الزعيم التي هي اليقين الذي يعطيه قدرة تأثيرية عظيمة.

وعن وسائل التأثير في الجماهير التي يتبعها القادة يقول المؤلف إن القادة يعتمدون على “التأكيد والتكرار والعدوى”، وبالتكرار تكتسب الأفكار قوة الحقائق الإيمانية. ومن شروط العدوى في رأي المؤلف الوحدة العرقية والمذهبية بدليل أن الثورة الفرنسية انتشر تأثيرها في البلاد الكاثوليكية خلافاً للإنجليزية التي لم تؤثر لأنها بروتستنتية. ويعمّم على الثورة الإيرانية التي لم تنتقل عدواها خلافاً للانتفاضات العربية الجارية. (ص87).

ويرى لوبون أن الجماهير تتأثر بالنماذج والموديلات، على أن لا ينحرف النموذج كثيراً عن الأفكار الشائعة. وللهيبة الشخصية أهمية وهي نوعان ذاتية ومكتسبة والثانية أكثر شيوعاً ويفقد القائد هيبته الذاتية حين يضع أهدافاً أعلى مما ينبغي (ص91). تتغير عقائد الجماهير تغيراً محدوداً: يرى المؤلف أنه يصعب ترسيخ عقيدة دائمة في نفوس الجماهير ويسهل أن تنفذ إليها آراء عابرة.

ويخصص المؤلف فصلاً لتأثير الإعلام المفتوح: يرى لوبون أن الصحافة صارت مثل الملوك خاضعة للرأي العام الذي تفتت مما أصاب الإنسان الحديث باللامبالاة، ويرى المؤلف أن قوة الجماهير لا زالت موجودة وحين يتمكن رأي واحد من امتلاك الهيبة الكافية سينغلق عصر المناقشة الحرة لفترة طويلة (ص103).
وينقل المؤلف آراء لوبون في “تصنيف الجماهير” معيداً النظرية العرقية التي تشكل الأساس الذي يستند إليه في تفسيره لسلوك الجموع فيضرب مثلاً بالفروق بين “الجمهور اللاتيني” و”الجمهور الأنكلوسكسوني” فالأول يؤيد الوحدة المركزية ويطلب تدخل الدولة على حين يميل الثاني إلى المبادرة الخاصة.

 ينقل المؤلف آراء لوبون في “تصنيف الجماهير” معيداً النظرية العرقية التي تشكل الأساس الذي يستند إليه في تفسيره لسلوك الجموع فيضرب مثلاً بالفروق بين “الجمهور اللاتيني” و”الجمهور الأنكلوسكسوني” فالأول يؤيد الوحدة المركزية ويطلب تدخل الدولة على حين يميل الثاني إلى المبادرة الخاصة.

يخصص المؤلف فصولاً من كتابه للحديث عن “صناعة القرار” ويبحث في صناعة القرار في الهيئات الرسمية والمجالس المنتخبة والمجالس الاستشارية، والهيئات الرسمية عنده لا تختلف في إصدارها للأحكام عن الجماهير غير المنظمة، ومن ذلك هيئة المحلفين التي تظل متأثرة بعواطفها وتتأثر بالهيبة والحظوة الشخصية، وفي المجالس المنتخبة يتملق المرشح الجماهير ثم تمارس الطرق المعتادة التي رأيناها في حالة الجموع مثل الرد على المحاججات المنطقية بالعنف.

يعود لوبون إلى فرضية العرق عند الحديث عن التصويت العام في الأنظمة الديمقراطية، إذ هو سيظل معبراً عن آمال العرق وحاجياته اللاواعية (ص126). ورغم مشاكلها يحتفظ لوبون بتقدير للمجالس النيابية التي يراها أفضل ما توصلت إليه الشعوب لحكم ذاتها، ولكنه يرى أنها تواجه خطرين جديين: أ- تبذير الميزانية بالانصياع للجماهير التي تريد تقديم سن التقاعد أو رفع الأجور! ب- التقييد التدريجي للحريات الفردية ولو عن غير قصد لأن كثرة التشريعات تقود إلى تقليص الدائرة التي لا تخضع للتقنين! (ص132).

  إن التغيرات الكبرى سببها الحقيقي تغير يصيب أفكار الشعوب، والأساس اللامرئي يتمثل في تصدع منظومات العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية والتشكل العفوي لشروط جديدة على مستوى الفكر ومستوى الواقع. “آخر سيادة تظهر في العصر الحديث هي قوة الجماهير وجبروتها”. لوبون

في نهاية الكتاب يذكر المؤلف رأي لوبون القائل إن التغيرات الكبرى سببها الحقيقي تغير يصيب أفكار الشعوب، والأساس اللامرئي يتمثل في تصدع منظومات العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية والتشكل العفوي لشروط جديدة على مستوى الفكر ومستوى الواقع (ص138). ويتنبأ بأن “آخر سيادة تظهر في العصر الحديث هي قوة الجماهير وجبروتها” (138). ويوافق المؤلف على هذا الرأي ويقول إن ثقة الجماهير بذاتها صارت هي العقيدة الجديدة التي يتمتع بها المواطن في أوروبا قديماً وفي بعض مجتمعات شمال أفريقيا وبلاد الشام والجزيرة العربية. لكن المؤلف كما يبدو لا يحسم رأيه في اتجاه واضح في موضوع العلاقة بين الجماهير والعقل: “إن نفسية الجماهير تبين لنا إلى أي مدى يكون تأثير القوانين والمؤسسات ضعيف جداً، وهو ضعف لا يترك أي أثر على الطبيعة الغرائزية العنيفة التي تتسم بها الجماهير، كما أنها عاجزة عن تشكيل أي رأي شخصي خاص بها، فكل آراؤها إنما تلقن لها تلقينا أو يوحى بها إليها من قبل الآخرين، ووحدها الانطباعات التي يتم توليدها في روحها يمكن أن تجذبها” (ص 147).

يبحث الكتاب في مسألة على درجة عالية من الأهمية في عصرنا هذا الذي شهدت فيه بلادنا أعظم حركات جماهيرية في تاريخها الحديث وهي مسألة القوانين التي تسيّر حركة الجموع، وهو جدير بالقراءة لا للموافقة على الآراء الواردة فيه بالضرورة، بل للنقد الموضوعي ولتطوير المقاربة المنهجية للموضوع.

محمد شاويش – برلين

رابط الجزء الأول

قد يعجبك أيضا