هيمنت الأحزاب السياسية الكردية, ذات النزعة العلمانية, على الساحة السياسية الكردية في سورية, منذ أربعينيات القرن الماضي, وحتى هذه اليوم، في ظل غياب أحزاب الإسلام السياسي الكردية, الأمر الذي خلق قطيعة بين النخب السياسية الكردية وقوى “الإسلام السياسي”.
وقد عزز تلك القطيعة، وجود إشكاليات في الهوية والتاريخ المشترك، الذي يصل المجتمع الكردي السياسي بـ”الإسلام السياسي”، وطبيعة الحالة الدينية الشعائرية إلى حد ما، أنتجت مجتمعاً يتبنى العلمانية الجزئية, يرفض “الإسلامي” سياسياً, ويتقبله كمرجع أخلاقي, ومصدر قيمي.
شارك الأكراد السوريون في الحياة السياسية السورية في إطار وطني منذ بواكيرها, وتأسست بعد تعاقب الحكومات السورية على السلطة في سورية منذ أربعينات القرن الماضي، عدة أحزاب سياسية كردية، تبنت أيديولجيات مختلفة، معظمها ذات نزعة عالمانية، وبدى جلياً غياب الأحزاب السياسية ذات الطابع الإسلامي عن خريطة الحياة السياسية السورية، قومياً ومحلياً.
والحزب السياسي كما تعرفه سعاد الشرقاوي، وهي أستاذة القانون العام في جامعة القاهرة “هو تنظيم دائم على المستويين القومي والمحلي يسعى للحصول على مساندة شعبية، بهدف الوصول إلى السلطة وممارستها، من أجل تنفيذ سياسة محددة” (الأحزاب السياسية ص 12).
تأثر النخبة السياسية الكردية بالأيديولجية اليسارية:
أسس الكردي خالد بكداش عام 1944 الحزب الشيوعي السوري، ولاقى قبولاً واسعاً في الوسط الكردي، حيث اعتبروه منبراً للتعبير عن مطالبهم الطبقية، على اعتبار أنهم ينتمون للطبقة الفقيرة، كما بقي الحزب يمارس نفوذه السياسي على خارطة الحياة السياسية السورية، حتى اصطدامهم مع حزب البعث الذي وصل إلى السلطة عام 1963، ليتراجع نشاط “الشيوعي” وينحسر نفوذه السياسي.
كما أن تمسك الحزب الشيوعي بطابعه الأممي، وتركيزه على الصراع الطبقي، حال دون مطالبته بأي مطالبة قومية للأكراد في سورية، الأمر الذي حتّم على بعض الساسة الأكراد، إيجاد بديل ذي بعد قومي كردي، وتشكيل حزب سياسي قومي كردي، فتم على إثر ذلك تأسيس ” الحزب الكردي الديمقراطي في سورية”، عام 1957، وقد لاقى الحزب رواجاً واسعاً بين الأكراد السوريين.
لتشكل هذه الخطوة بداية جديدة في الحياة الحزبية السياسية الكردية في سورية فيما بعد، حيث شهد الحزب في مرحلة الثمانينيات عدة انشقاقات بسبب خلافات داخلية، أدت لبروز عدة أحزاب كردية ذات توجه يساري، فمنها من تبنى الماركسية اللينينة، كحزب ” الشغيلة الكردي” والذي تم تغيير اسمه عقب مؤتمر عقده أعضاؤه,، ليصبح ” حزب العمل الديمقراطي الكردي” عام 1983، وقد بقيت الخارطة السياسية الحزبية الكردية في سورية، تشهد تقلصاً وامتداداً في ظل نشوء أحزاب جديدة وحل أخر، حتى موعد الانفجار السياسي والاجتماعي عام 2011 في سورية، لتشهد نشوء أحزاب وتكتلات سياسية جديدة.
وعقب اندلاع الثورة االسورية عام 2011، تشكل على الخارطة السياسية الحزبية الكردية، ما يربو على 30 حزباً سياسياً تنتشر في مناطق التواجد الكردي، في الحسكة وعين العرب وعفرين شمالي وشرق سورية، في تكتليين رئيسين يهمينان على الساحة السياسية الكردية، هما المجلس الوطني الكردي، الذي يضم نحو أحد عشر حزباً سياساً كردياً، وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية، الني يبلغ عدد أحزابها قرابة الواحد والعشرين حزباً، ويغلب على هذين التكتلين الطابع العلماني القومي، البعيد عن “الإسلام السياسي” بكافة مستوياته.
وبقيت أحزاب “الإسلام السياسي” الكردي غائبة عن الخارطة السياسية الحزبية الكردية في سورية منذ الاستقلال السوري ختى الآن، كوجود رسمي منظم, عدا مشاركة بعض الشخصيات الدينية الكردية في العمل السياسي الحزبي الكردي، كالشيخ محمد عيسى سيدا وهو من مؤسسي الحزب الديمقراطي الكردستاني، والشيخ محمد باقي ملا محمود الذي كان سكرتيراً سابقاً للحزب الديمقراطي الكردي، و الشيخ محمد معشوق الخزنوي الذي تم اغتياله بعد زيادة شعبيته ونشاطه السياسي.
ربما يبرر ذلك الغياب عدة أسباب، فالأكراد في سورية كان يتجاذبهم تياران متناقضان يعبران عن رؤى مختلفة تماماً, وينطلقان من محدادات أيديولجية متابينة, يتمثل هذان التياران في الأحزاب السياسية الكردية ذات النزعة العلمانية، يقابله في الجبهة الأخرى “الإسلام المتصوف”، الذي يرى حرمة العمل السياسي، ويركز على التزكية والفقه.
كأتباع الطريقة النقشبندية: التي تأسست على يد الشيخ أحمد الخزنوي عام 1912، والتي توراثها أبناؤه من بعده، وقد أثرت هذه الطريقة على المجتمع الكردي، سياسياً واجتماعياً، تأثيراً كبيراً حيث كان لها الآف المريدين في المجتمع الكردي, وقد اتخذت موقفاً مناهضاً من الأحزاب الكردية, بحسب ماجاء في كتاب عبد الرحيم درويش، سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سورية، ومن بين الجهات التي وقفت بعناد ضد وجود حزبنا ، هي رابطة علماء الدين الإسلامي التي تم تشكيلها بُعَيد تأسيس حزبنا من قبل المرحوم الشيح عز الدين الشيخ أحمد الخزنوي، وكان الهدف من تشكيل هذه الرابطة هو معاداة حزبنا بالدرجة الأولى، وقد انضم عدد كبير من الملالي والشيوخ ورجال الدين إلى هذه الرابطة وحاربوا حزبنا بجميع الإمكانات المتوفرة لديهم. واعتمدت الرابطة في محاربتنا بشكل أساسي على اتهام حزبنا بخرق قواعد الدين والشريعة الإسلامية، ورغم الجهود الكثيرة التي بذلها أنصار هذه الرابطة في المناطق المختلفة من أنحاء الجزيرة فإنّها لم توفق في الحد من نشاط حزبنا”( أضواء على الحركة الكردية في سورية, ص 23)
إلا أن الأصل في تشكل الرابطة بحسب ما عبر عنه عبد الرحيم درويش هو معادة الحزب الديمقراطي الكردي، أمرمبالغ فيه، إذ لم يكن الأصل في تشكيلها محاربة الأحزاب الكردية السياسية, لعملها في الميدان السياسي فحسب, بل لتبنيها الفج للأيديولجية العلمانية.
القطيعة الهوياتية والتاريخية مع “الإسلام السياسي”:
ومن العوامل التي حالت دون نشوء أحزاب إسلام سياسي في المجتمع الكردي السوري، كالمجتعمات الأخرى التي نشطت فيها أحزاب الإسلام السياسي، هي القطيعة مع الهوية الإسلامية، التي حلت محلها الهوية القومية الكردية، فعدم تمكن الأكراد من تشكيل دولة خاصة بهم عزز لديهم الشعور القومي، منبت الصلة مع الهوية الإسلامية، والمنفصل عن تاريخ الإسلام السياسي، الأمر الذي خلق هوة بين الشارع الكردي و”الإسلام السياسي”.
كما أن عدم وجود رابط تاريخي يصل الأكراد بتاريخ “الإسلام السياسي” مثل نظرائهم في المجتمعات المحيطة بالمجتمع الكردي, كالأتراك الذين أسسوا امبراطورية عثمانية إسلامية، والفرس الذين شيدوا الدولة الصفوية، الأمر الذي كرّس في وجدان وذاكرة تلك المجتمعات قطيعة مع “الإسلام السياسي” تاريخياً, وهو ما دفع المجتمع الكردي للعزلة عن ممارسة “الإسلام السياسي”، فالعامل التاريخي دافع نحو استجلاب الذاكرة التاريخية واسقاطها على الواقع، كدافع للإصلاح أو التغيير.
وقد ساهمت طبيعة تدين المجتمع الكردي حاجزاً في وجه نشوء أية أحزاب إسلامية, ذ أن نمط التدين في غالبيته اجتماعي فقط, ويتخذ من الإسلام مرجعاً أخلاقياً, روحياً, يهتم بالشعائر الإسلامية والعبادات، ويرى ضرورة فصل ماهو سياسي عن الدين, كمجتمع تسود فيه العلمانية الجزئية.
وباعتبار أن “الإسلام السياسي” أحزاباً سياسية وحماعات، جاء كبديل إصلاحي عن نظام سياسي موجود في المجتمعات النظيرة للمجتمع الكردي، الأمر الذي يفتقده هذا المجتمع، فالأكراد لا يمتلكون دولة قومية خاصة بهم، حتى ينفروا منها، ويشكلوا بديلاً سياسياً عن السلطة التي تقودها، مما عزز لدى الأكراد الشعورالقومي والمظلومية السياسية، التي ملأت حاجة المجتمع الكردي السوري عن تبني أي أيديولجية تتعارض مع القومية مفهوماً وفلسفة بأي شكل كالإسلام السياسي.
لم تنتج الساحة السياسية الكردية في سورية أحزلباً ذات طابع ديني، بكافة تجلياتها، نظراً لعدم وجود أرضية ملائمة لنشوء وتشكل أمثال تلك الأحزاب، للأسباب التي ذكرناها، كما أن أي خطوة لإنشاء أحزاب دينية ستمنى حتما بالفشل الذريع، كون الأحزاب االسياسية الكردية ترفض وجود أحزاب مؤدلجة دينياً، وسيكون هدف جميع الأحزاب حينها، وأد الحزب الجديد المؤدلج دينياً.
كما أن سيطرة “ب ي د” الفرع السوري لـ”حزب العمال الكردستاني” عسكرياً وإدارياً على المناطق التي يقطنها غالبية الأكراد في سورية، تجعل من نشوء تلك الأحزاب الإسلامية, أمراً محالاً، حيث تناصب “ب ي د” العداء لـ”الإسلام السياسي”، باعتبار أن عدويها التاريخين تركيا وإيران تدار من قبل جماعات وأحزاب إسلامية أو تُصنف كذلك.
وأخيراً: إن نمطية تصور “الإسلام السياسي” التي تجذرت في الوعي الجمعي الكردي، والتي رسخها تنظيم “داعش”، الذي يراه البعض مُصنفاً على “الإسلام السياسي” ومهاجمته بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية، كمدينة عين العرب في محافظة حلب؛ عززت من خلق بيئة طاردة لـ”الإسلام السياسي” بكافة مستوياته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت