أفكار عن مقتل الطفلة جوى في حمص

في أي مجتمع يهتم بصحته يجدر بقضية مثل قتل جوى إستانبولي أن تصبح محل اهتمام علم النفس وعلم الاجتماع وما بينهما، ليس فقط لتحليل الجريمة التي تحولت إلى قضية رأي عام، بل لتشريح هذا الرأي العام نفسه بالدرجة الأعمق.

بدأت القصة مساء الاثنين، في الثامن من الشهر الحالي، عندما اختفت الطفلة، التي لم تتم الأربع سنوات، من أمام منزل ذويها في حي المهاجرين العشوائي على أطراف حمص. وبعد قرابة أسبوع تم العثور على جثتها في مكب نفايات المدينة. وبعد عدة أيام أعلن فرع الأمن الجنائي القبض على القاتل، وهو جار متشرد غير سوي اجتماعياً ونفسياً وجنسياً، وبث التلفزيون الرسمي اعترافاته الباردة التي أججت بشاعتها غضب الشارع الذي شارك في تشييع الطفلة وهو يطالب بإعدام الفاعل في ساحة عامة بشكل عاجل.
الجريمة مروعة. وقد زادت الصور العذبة للطفلة من تواتر تناقلها والتعاطف مع المصيبة حتى بدا وكأن كل سكان سوريا الأسد مطالبون، أخلاقياً وتحت ضغط الشعور العام، بركوب قافلة القلق فالصدمة فالغضب على وسائل التواصل الاجتماعي. وشمل هذا مشاهير وصنّاع رأي. وبشكل أوحى وكأن الحادثة، الفظيعة دون شك، حصلت في مجتمع رخيّ وادع مستقر، وصدمت وعيه الجمعي، لا في بلد لم يمر عليه يوم، تقريباً، دون قتل، منذ أكثر من عشر سنوات.

وتزداد المفارقة عندما نعلم أن بؤرة التعاطف انطلقت من حيّ الزهراء الذي تسكنه أغلبية موالية ينتمي إليها والدا جوى، وقدّم للنظام أعداداً كبيرة من مقاتليه في القوات النظامية والرديفة والتشبيحية. قبل أن ينتشر الترند بسرعة فيتمدد طائفياً، ثم يفيض إلى عموم الجمهور الموالي، فإلى مجمل سكان مناطق النظام وبعض سواهم.

يكمن التناقض في أن أعداداً وافرة من المتعاطفين، مرهفي الشعور الآن، مقاتلون في «الحرب السورية»، ومنهم طارق، والد الطفلة نفسه، العسكري الذي ارتدى لوقت ما بزة مكتب أمن الفرقة الرابعة الشهيرة. وبحكم طبيعة ما جرى فمن المرجح أن يكون هؤلاء قد شاركوا في عمليات حربية ضد أحياء سكنية فيها مدنيون. أو، على الأقل، أيدوا هذه الأعمال وهللوا لها ورفعوا صور رمزها العام، بشار الأسد، وقوادها المحليين. وينطبق هذا على نسبة ملحوظة من المستنكرين لهذه الجريمة المفردة الشنيعة المتجاهلين سواها.

بل إن سيل التعاطف الجارف يخفي وراءه دافعاً أعمق ربما يتعلق بالتكفير أو التطهير عن تأييد طويل للإجرام الذي لم تعد آثاره تخفى على أحد مع تكراره واتساع رقعة فعله. كما قد يحيل هذا الموقف المتناقض إلى شعور جمعي بالعظَمة، مستند إلى القوة ومقلوبٍ عن مخيال تاريخي للاضطهاد، يدفع المرء إلى أن يُعلي من شأن دم أبناء عشيرته بالقياس مع أطفالٍ هواميين قُتلوا في حمص وحلب ودير الزور، وما يزالون يُقتلون في إدلب… إلخ. وإذا كانت الذكرى تنفع من له قلب فمن المفيد أن نشير إلى تزامن هذا التفاعل الموالي الصادق وغير المسبوق مع مرور الذكرى التاسعة لمجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، والعاشرة لمجزرة داريا، قبل أيام. ولم يُقتل فيهما طفل واحد، بل أطفال!

الملاحظة الثانية اللافتة في ملف الشهيدة جوى هو أن السلطات، تحت ضغط الغضب الشعبي، سارعت إلى نشر نتائج التحقيق والاعترافات وتقرير الطب الشرعي قبل استكمالها بشكل منسجم تماماً، مما أدى إلى بعض الأخطاء التي جرى تداركها لاحقاً. وهنا ظهرت فجوة هائلة من قلة الثقة ربما لا ينتبه إليها جمهور الثورة. فمع تراكم الأكاذيب الرسمية، ولا سيما في القطاعات المحلية والخدمية، صار سكان مناطق الأسد متشكّكين في كل ما يصدر عن أجهزته الحكومية، إلى درجة مبالغ فيها وبشكل مفرط بعض الأحيان. فلم يقتنع بعض «المحللين» من منازلهم على مواقع التواصل أن الجريمة، التي «هزت الشارع السوري»، تتمخض عن هذا القاتل الهامل. واستغلوا بعض أخطاء التحقيق، الفعلية أو المختلقة، ليفترضوا أن وراء الحادثة «جهات عليا» ترتبط بعمل مفترض للأب الفقير في ترويج المخدرات لصالح أطراف نافذة. زاعمين أن وزارة داخلية النظام أخفت أدلة، وتلاعبت في التشريح، وتسترت على القاتل الحقيقي بأوامر «من دمشق».

ومرة أخرى يحتاج الرواج الواسع لهذه الروايات إلى تحليل لأسبابه أكثر من مناقشتها هي نفسها. إذ يدل هذا الانتشار على انهيار ثقة الموالين بالنظام، بدءاً بذراعه الإعلامية، وعلى عدمية ضبابية وتآمرية في التفكير والتحليل، تندرج أصلاً تحت مظلة نتائج مسيرة الموت الكبير التي قادهم إليها دون أن تبدو لها نهاية، لا «نصراً» كما وعدهم مراراً، ولا تسريحاً من الجيش بإحسان، ولا تعويضات لائقة للقتلى والجرحى، ولا كهرباء ولا محروقات، ولا حياة معقولة مع تدهور القدرة الشرائية لليرة التي يعتمد معظمهم على العيش من رواتبها.

صحيح أن بشار الأسد ما يزال مسوّراً غير قابل للمس، بحكم انعدام البديل وبفعل أجهزة قمعه وبقايا قدسية والده، «الأب المؤسس»؛ إلا أن كل ما حوله وما دونه بات في مهب التخوين والإسقاط، في حين أنه استمرَّ تجسيداً لخيبة أمل عميقة لدى مؤيديه.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا