الأسد في سرديّاته التاريخية

يحار المرء العاقل كثيرا عندما يستمع لزعماء مستبدّين، ويعجز عجزا تاما في إيجاد تفسير عقلاني لما يقولونه، هل هم يكذبون بشكل علني وفج، أم أنهم مقتنعون بما يقولونه، وبالتالي يعيشون حالة شيزوفرانيا مع الواقع القائم؟ ربما تكون الحالتان موجودتين في شخصية المستبدّ، وإن كانت الحالة الثانية أقرب إلى الواقع، كما بيّنت تجارب عالمية عديدة للمستبدّين.

مع طول عملية الحكم، وباعتباره الرجل الآمر والناهي، ومع كثرة المتملّقين، يعيش الرئيس أو الزعيم حالة البارانوايا التي تتفاقم إلى درجة أنه يصبح منفصلا عن الواقع، حتى في خطوطه العريضة، فلا يرى ويسمع إلا بعيون المحيطين به وألسنتهم والتقارير التي ترد إليه.

مفاد هذا القول كلام رئيس النظام السوري بشّار الأسد مع قناة “سكاي نيوز” الإخبارية، وتقديمه سردية تاريخية وحالية لما جرى ويجري في سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، لا علاقة لها بالحقيقة الموضوعية. لقد بلغت سرديته مستوىً عاليا من الميتافيزيقا السياسية إن صحّت العبارة، لجهة كسرها منظومة الحقائق القائمة. قال الأسد إنه لم يكن لوالده الرئيس حافظ الأسد أي دور في وصوله إلى منصب الرئاسة، فهو لم يتولّ أي منصب سياسي أو عسكري قبل وفاة والده، والسؤال الذي يطرح نفسه، من الذي اختار الأسد الابن إذا لمنصب الرئاسة؟ تقول الوقائع التاريخية، وفقا لما جرت في سورية، إن مجلس الشعب عقد، في يوم إعلان وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو/ حزيران عام 2000، جلسة استثنائية برئاسة رئيس المجلس، عبد القادر قدورة، وبعد كلمات النعي، قال قدّورة أمام النواب “أيها الزملاء، وردني اقتراح من أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب بتعديل المادة 83 من الدستور التي تنص: يشترط فيمن يرشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سورياً متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية متمما الأربعين عاما من عمره”. وفعلا تم تعديل المادة 83 من الدستور، فأصبحت “يشترط فيمن يرشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سورياً متمتّعا بحقوقه المدنية والسياسية، متمما الأربعة والثلاثين عاما من عمره”.

نحن هنا أمام فعل ديمقراطي قام به “مجلس الشعب” المنتخب مباشرة من الشعب. هكذا يقرأ الأسد الوقائع السياسية. وعلى النهج يفسر الأسد أحداث سورية منذ عام 2011، فالثورة السورية المزعومة ليست سوى مؤامرة لإخراج سورية من معادلة الصراع مع إسرائيل، وأن الشعب ملتف حول قائده، وكل الذين تظاهروا لا يتجاوز عددهم المئة ألف شخص مقابل ملايين البشر المؤيدين له. بيد أن حالة الانفصام عن الواقع تزداد حين يقول إن استمراره بالحكم ناجم عن إرادة شعبية هي التي وقفت في وجه الإرهاب والولايات المتحدة، وحالت دون تحقيق أهدافهما، وليس القمع العنيف والقتل العشوائي واستخدام الأسلحة الفتاكة السبب في بقائه.

أيضا، ليست “الدولة السورية” هي التي قامت بعمليات القتل والتهجير ضد فئاتٍ واسعة، وإنما الإرهاب هو الذي فعل ذلك، فلا توجد دولة، يتابع الأسد، تدمّر الوطن. وحتى توقف عودة اللاجئين إلى سورية ليس متعلقا بالواقع الأمني، وإنما بالواقع المعيشي السيئ وانهيار البنى التحتية، يقول الأسد. وفي هذا جانب من الحقيقة، فالوضع داخل سورية صعب، لكنه سبب غير كاف لعدم العودة، فواقع اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا سيئ للغاية، وهؤلاء، كما أي لاجئين في العالم، يفضّلون العودة إلى ديارهم، إذا لم يوجد فيها ما يهدّد حياتهم وحياة عائلاتهم.

وفي ما يتعلق بالعلاقات العربية ـ العربية وموقع سورية منها، فقد ناقض الأسد ما قاله في القمة العربية في جدّة في مايو/ أيار الماضي، حين قال “أما سورية فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة.. لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان.. فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم، وربما ينتقل الإنسان من حضن إلى آخر لسبب ما، لكنه لا يغير انتماءه، أما من يغيّره فهو من دون انتماء من الأساس، ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن، وسورية قلب العروبة وفي قلبها”.

في مقابلته مع “سكاي نيوز”، قال الأسد “إن العلاقات العربية العربية منذ أن تكوّن عندي الوعي السياسي قبل أربعة عقود، هي علاقات شكلية، لماذا؟ لسبب بسيط، لأننا بطريقة تفكيرنا ربما على مستوى الدول، أو هي ثقافة عامة لا أدري، لا نطرح حلولا عملية ولا نطرح أفكارا عملية لأي شيء، نحبّ الخطابات والبيانات واللقاءات الشكلية، هذه طبيعة العلاقة”. يشير هذا التغير في النبرة حيال العرب إلى أن قطار التطبيع الذي توج في قمّة جدة توقف أو تم إبطاؤه بشكل واضح، ليس بسبب الضغوط الأميركية فحسب، بل الأهم لإدراك بعض القادة العرب أن هذا الانفتاح على النظام السوري سيُلحق بهم ضررا استراتيجيا.

تنتهي سرديات الأسد في ملف المخدّرات، فيقول “إذا كنا نحن من يسعى كدولة لتشجيع هذه التجارة في سورية، فهذا يعني أننا نحن كدولة من شجعنا الإرهابيين ليأتوا إلى سورية، ويقوموا بالتدمير ويأتوا بالقتل، لأن النتيجة واحدة.. إذا وضعنا الشعب بين الإرهاب من جانب والمخدّرات من جانب فنحن نقوم بأيدينا بتدمير المجتمع والوطن، أين هي مصلحتنا؟”. ويتابع الأسد، وهذا هو الأهم، “تجارة المخدّرات كعبور وكاستيطان هي موجودة لم تتوقف، هذه حقيقة، ولكن عندما يكون هناك حرب وضعف للدولة، فلا بد أن تزدهر هذه التجارة، هذا شيء طبيعي، ولكن من يتحمّل المسؤولية في هذه الحالة هي الدول التي ساهمت في خلق الفوضى في سورية وليست الدولة السورية”.

ثمّة رسالتان أساسيتان موجهتان إلى الدول العربية: أن “الدولة” السورية لا علاقة لها بتجارة المخدّرات، فهي نشأت بسبب ضعف الدولة، وهذا يعني أن هذه التجارة ستستمرّ طالما أسبابها (ضعف الدولة) ما زالت قائمة. وأن الدول التي ساهمت في إشاعة الفوضى في سورية هي التي تتحمّل مسؤولية انتشار تجارة المخدرات في سورية، وبالتالي على هذه الدول أن تقوم بتغيير جذري في استراتيجياتها حيال سورية، وتقديم المساعدات لها للعودة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.

تفيد تصريحات الأسد والمسؤولين السوريين طوال السنوات السابقة بأننا نتعامل مع منظومة حاكمة مُحكمة الإغلاق، لا مجال إلى إصلاحها أو إحداث تغيير طفيف في سلوكها. وفي حالة مثل الحالة السورية، لا يوجد سوى خيارين: بقاء النظام كما هو، أو إزالته وتدميره بالكامل عبر ثورة شعبية جارفة، لا تبدو البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مهيأة لهذا الفعل الثوري.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا