الأسد يفوز..سوريا تغادر الكوكب بسلام

بين السخرية الجارحة وبين المرارة الشديدة، جرت الانتخابات الرئاسية السورية، وقدمت البرهان على أن سوريا لا تزال تنتمي الى حقبة النصف الاول من القرن الماضي، وأحكامها ومعاييرها وحتى مظاهرها، وتندرج في فئة البلدان المتمردة على القيم الراهنة للمجتمع الدولي، مثل كوريا الشمالية وبيلاروسيا وغيرها من دول آسيا الوسطى التي نسيها التاريخ السوفياتي، لكنه أسند الى روسيا مهمة إبقائها في فلكها وتحت وصايتها.

لم يكن من باب الاستهزاء أن تستعيد الذاكرة وقائع العمليات الانتخابية التي كانت تجري في أواسط القرن العشرين، في سوريا بالذات كما في الكثير من الدول العربية ودول العالم الثالث. تلك الذكريات كانت صادمة، لأنها، على نواقصها وعيوبها الفادحة، لم تكن تبلغ هذا الحد من الاستخفاف بفكرة الاحتكام الدوري لصناديق الاقتراع، من أجل تداول السلطة الحزبية والتشريعية وحتى الرئاسية. سوريا نفسها شهدت بعض التجارب العابرة، وكذا مصر والعراق وليبيا، قبل ان يستقر حكم العسكر ويستمر حتى اليوم.

حتى من لبنان، الذي لم يعرف في تاريخه شكل الدولة ولا وجودها، ولا طعم الانتخابات النزيهة أو نتائجها، كانت متابعة الانتخابات الرئاسية السورية بالامس، محزنة، لأنها تشبه زيارة شاقة الى الماضي، أو بالاحرى رحلة الى كوكب بعيد، ما زالت سوريا وشعبها، الموالي والمعارض، تتشبث بالبقاء فيه، والتحليق في مداره، متباهية بأنها تمسك بناصية الحقيقة، وتمضي في الاتجاه الصحيح.. المخالف للغالبية الساحقة من دول العالم التي إلتحقت بثقافة الحاضر أو على الاقل بحساباته.

كيف إنحدرت سوريا الى هذا المستوى، حتى عن تجاربها الانتخابية والسياسية السابقة، وحتى عن مسلمات نظامها الحالي ومحرماته: الثورة ليست السبب بالتأكيد، فهي كانت وستبقى الدليل على ان المجتمع السوري لم يمت ولن يموت، وعلى أن أدوات حكم سوريا ونصوصها الدستورية ورموزها السياسية ستتغير يوماً ما نحو الأفضل..وهي كانت وستظل تتحدى النظام والمعارضة من داخلهما للقيام بما هو أنسب وأجدى لمستقبل سوريا.

لعل الارشاد الروسي والايراني، بما يختزله من تاريخ ديمقراطي عريق ووعي سياسي عميق، هو مصدر هذا الخلل، أو العيب في التجربة الانتخابية السورية الراهنة. ففي البلدين، الكثير مما يمكن لسوريا أن تستلهمه وتتعلم منه، بشهادة المراقبين الروس والايرانيين الذي كانوا يتجولون بالامس على مراكز الاقتراع السورية، مع آخرين من طلائع ألوية نشر الديموقراطية الآتين من بيلاروسيا وكوريا الشمالية وفنزويلا وغيرهما..بعيداً عن أعين الاعلام! ومعهم كما تردد أيضا مراقبون من الشيشان أرسلهم الرئيس فلاديمير بوتين لهذه الغاية.

لم يكن أحد يملك جواباً على السؤال الجوهري: ما كان الداعي الى إجراء عملية إنتخابية كان يمكن تزوريها بسهولة، وبأرقام مليونية، ومن دون الحاجة الى تكليف جمهور الموالين عناء التوجه الى مراكز الاقتراع، لكي يجدوا ضباطاً وجنوداً بزيهم العسكري يقفون فوق صناديق الاقتراع مباشرة، أو يملؤون ورقة التصويت بإسم الرئيس، ويسلمونها الى الناخب لكي يقوم بإسقاطها في الصندوق. هل كان الرئيس “الفائز”بحاجة فعلا الى مثل هذه المبايعة الديموقراطية، ولأي سبب..غير إستفزاز الغرب وإثارة بيانات التشكيك بشرعية إنتخاباته ونزاهتها والتذكير بقرارات مجلس الأمن الدولي الذي مزّقه الروس والايرانيون، ورموه في سلة المهملات، ونصحوا الاسد، كما قيل، بالتمديد لنفسه قدر ما يشاء، لتجنب الاعباء المالية والاقتصادية وحتى الأمنية لعملية إنتخابية لن تقنع أحداً، لا في سوريا ولا خارجها، بأن النص الدستوري محترمٌ الى هذا الحد.. خاصة وأنه ليس في الأفق عملية سياسية تفاوضية جدية، تبرر مثل هذه التعبئة العسكرية للموالين، ومثل هذا الاستفزاز للمعارضين.

كانت خطوة واسعة الى الوراء، أملتها شخصية الرئيس “الفائز”، مثلما حكمتها عقلية المعارضة البائسة، أسوأ ما فيها أنه لا يمكن لأحد في العالم أن يقنع الاسد بأنه لم ينتصر، ولا أن يقنع معارضيه بأن موعد إزاحته مؤجل، ولو الى حين.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا