الصراع على سورية..ومحاولة اللعب خارج المربع الأمريكي

تشكّل الجغرافية السورية عامل جذب لصراعات إقليمية ودولية، فهي بوابة عبور الغرب الأوربي نحو بلدان الشرق، وهي الممرّ الرئيسي لطريق الحرير، الذي تمرّ عبره التجارة الدولية في اتجاهيها، من بلدان الشرق نحو أوربا، أو بالعكس من أوربا نحو الشرق.

هذه الجغرافية تلعب دوراً رئيسياً في الصراع السوري، فإيران، تريد أن تفرض نفوذها عبر ما يُطلق عليه تسمية (الهلال الشيعي) الممتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط بشاطئيه اللبناني والسوري.

إيران تريد أن تستبدل مسار طريق الحرير القديم، من خلال اتصال أوربا تجارياً بالشواطئ الشرقية للبحر المتوسط في سورية ولبنان، ليتخذ مساره الجديد عبر الهلال الشيعي إلى طهران، لتصير الأخيرة مركزاً تعبره التجارة الدولية في الاتجاهين، وهذا يمنح إيران قوة اقتصادية كبيرة، تنعكس قدرةً عسكريةً لتنفيذ رؤيتها الاستراتيجية في إقامة إيران الكبرى.

لكنّ الغرب المتربص بإيران وببرنامجها النووي والصاروخي، كان يُدرك أن سياسة ملالي طهران تفضي إلى صراعٍ داخلي بين قوى التغيير وبين النظام الشمولي الديني، هذا الصراع، بدأ الغرب بتغذيته، مما يساعد في استنزاف عميق لقوة الدولة الإيرانية المحكومة من نظام ديني شمولي مغلق.

الروس الذين ساندوا نظام الاستبداد الأسدي، ومنعوا سقوطه عبر تدخلهم عسكرياً واقتصادياً، وجدوا أن عبء هذا الملف صار غير محتملٍ لديهم، بعد أن أعلنوا حربهم العدوانية على أوكرانيا. وقبل تلك الحرب، اكتشفوا أن ما حققوه من انتصارات عسكرية على فصائل قوى الثورة السورية، بقي بلا نتائج سياسية، يمكنهم من خلالها حسم الصراع لصالح نظام أسد، سيما، وأن الغرب رفض مساندة مشروع إعادة إعمار سورية، أو السماح بإعادة تأهيل النظام، وهذا يعني استنزاف روسيا في المستنقع السوري.

تركيا التي تشترك مع سورية بحدود تبلغ قرابة تسعمائة كم، والتي تقاوم إرهاب حزب العمال الكردستاني ((PKK، الذي يقوم بشنّ عملياته العسكرية ضد تركيا انطلاقاً من جبال قنديل، التي أنشأ فيها مخابئه السريّة، ومن الأراضي السورية، حيث يسيطر فعلياً على مفاصل ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تساندها الولايات المتحدة بذريعة محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” المسمّى (داعش).

قسد التي تدعمها الولايات المتحدة بالسلاح، تستخدمها فعلياً لاستنزاف تركيا، التي تعمل جاهدة على تنفيذ برنامج تنميتها الشاملة، وهذا الأمر أبعد تركيا عن حليفها الولايات المتحدة، من خلال اقترابها وتعاونها مع روسيا.

تركيا المتضررة من استمرار إغلاق طرق التجارة الدولية العابرة للأراضي السورية (طريقا M5 ,M4)، والمتضررة من عمليات ال PKK وال PYD فكّرت بإحداث انعطافة سياسية في ملف الصراع السوري، فهي تُدرك بعمق أن النظام الأسدي عاجز عن تغيير واقع الحال في منطقة الجزيرة والفرات، هذه المنطقة تسيطر عليها قوى معادية لها تتقدمها ميليشيا PKK.

كذلك تريد تركيا فرض إرادتها على نظام أسد، من خلال توسيع اتفاقية أضنة الموقعة مع هذا النظام، ليصير العمق المسموح فيه رسمياً توغل القوات التركية لمطاردة PKK هو ثلاثين كم عمقاً بدلاً من خمسة كم.

إذا حصلت تركيا على هذا الاتفاق الجديد مع نظام أسد، تكون قد قطعت الطريق على الولايات المتحدة الأمريكية بمنع توغل قواتها، وهذا لا تريده واشنطن، حيث تعرف أن أي تقارب تركي مع النظام الأسدي ليس هو الهدف، بل الهدف هو تقارب وتبادل مصالح مع روسيا، التي تسعى الولايات المتحدة إلى استنزافها اقتصادياً وعسكرياً في حربها على أوكرانيا، فتركيا تعرف أن نظام أسد ليس ندّاً لها، وأنه محمي ومقاد من الروس.

الرؤية التركية الجديدة من نظام أسد هي أيضاً ضد تفرّد إيران بهذا البلد، فتركيا ترفض أن يتحكم الوجود الإيراني بمصالحها الحيوية مع بلدان المشرق العربي، ولهذا فهي تقترب من نظام أسد لأهداف متعددة، مستفيدة من انشغال النظام الإيراني بانتفاضة شعبه عليه، ومستفيدة من الصراع الروسي الغربي، بأن تصير مدخلاً حيوياً لمرور الغاز والنفط الروسي عبر أراضيها.

لكن تركيا تُدرك أولاُ وأخيراً أنها لا يمكنها أن تلعب بمفردها طويلاً في الساحة السورية خارج الملعب الأمريكي، فالأمريكيون، الذين أرسلوا موفداً لأنقرة للتباحث معها حول رفضهم لتطبيع علاقاتها مع نظام دمشق، وسيستقبلون وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو في واشنطن بعد أسبوع لذات الهدف، سيبيّنون للأتراك أن ذهابهم للتطبيع مع نظام أسد سيضعهم قيد العقوبات الأمريكية، التي نصّ عليها قانونا قيصر والكبتاغون.

تركيا لن تستطيع بهذه السهولة تجاهل الدور الأمريكي، وهي لن تغامر في ظل انتخاباتها بعد أشهر قليلة بتحدي الأمريكيين، وتدفعهم لفرض عقوبات مؤلمة عليها، تضرّ باقتصادها، وبقيمة ليرتها، مما ينعكس سلباً على مؤيدي الحكومة، الذين قد تذهب أصواتهم لصالح المعارضة.

لهذا يمكن قراءة التوجه التركي للتطبيع مع نظام أسد، على أنه تكتيك من حكومة رجب طيّب أردوغان، وغاية هذا التكتيك، الحصول على مكاسب سياسية ملموسة، في لحظة تغيّر التوازنات الدولية، هذه المكاسب تتمثّل بالسماح لتركيا بعمل عسكري ضد قسد في منبج وتل رفعت وعين العرب، أو إفراغ هذه المناطق من أي وجود لميليشيات PYD,PKK.

هذه التطلعات التركية تساعدها على تنفيذ ما يسمى مناطق آمنة يعود إليها اللاجئون السوريون من تركيا أو من بلدانٍ أخرى، هذه المناطق، التي رفض الأمريكيون من قبل أن يسمحوا لتركيا بفرض منطقة آمنة فيها، يبدو انهم مستعدون للتباحث الجاد حولها.

 أما الآن وفي ظل صراعهم مع الروس في أوكرانيا، فإن هذا الصراع سيمتدّ لمحاصرة الروس في الحلقة السورية الضعيفة، هذه المحاصرة الأمريكية ستَضطر لتقديم تنازلات لأردوغان، مما يجعل إعادة انتخاب الأخير عملية محسومة لصالحه.

فهل ستذهب تركيا للتوافق مع الأمريكيين وهم حلفاؤها التاريخيون في الناتو؟، أم ستذهب لتعميق تحالفها مع روسيا، والتي بدأ حمل حربها على أوكرانيا ينوء بها؟

بقي أن نقول أن الأتراك يجيدون المناورة والتكتيك السياسيين، دون التفريط بثوابت تتعلق برؤيتهم الاستراتيجية في تطوير بلادهم، وهذا ستجيب عليه الأيام القريبة المعدودة.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا