اللامعقول في الاندفاع العربي للتطبيع مع نظام الأسد

الأسباب التي دفعت الدول العربية إلى منع نظام الأسد من شغل مقعد سورية في الجامعة العربية لا تزال قائمة، فالنظام الأسدي، لا يزال يفتك بالشعب السوري عبر استمرار حربه عليه، ولا يزال يرفض أي مبادرة تقود إلى حلٍ سياسي، فما الذي تغيّر في الواقع حتى نرى هذا التهافت على التطبيع مع نظامٍ وثّقت الأمم المتحدة وأطراف دولية حجم جرائمه؟

هناك شيء ما تغيّر في هذه المعادلة، وهو ليس يتعلق بتغيّر بنية النظام، أو تغيّر جوهر سياساته نتيجة ما يحيط به من أزمات اقتصادية خانقة، وإنما بظروف الدول العربية وغير العربية التي قاطعته.

إن نظرةً موضوعية لواقع حال النظام كفيلة بتحديد ظروفه السياسية والعسكرية والاقتصادية، هذه الظروف، لا تسمح له واقعياً بوضع شروط على قبوله عملية التطبيع مع الدول العربية أو تركيا.

نظام الأسد خسر منذ عام 2014 القدرة على السيطرة على الجغرافية السورية، وبالتالي فهو خسر قدرته الذاتية في إعادة إنتاج نظامه الاستبدادي، سيما بعد أن استدعى ميليشيات حزب الله اللبناني وميليشيات إيرانية ثم القوات الروسية للدفاع عن وجوده ومنع سقوطه، هذا الاستدعاء كان ثمنه خسارة الأسد لإدارة لعبة سحق قوى الثورة، وانتقال زمام التحكم بالصراع وبالبلاد إلى إيران وروسيا على الصعد المختلفة.

هذه الحالة ازدادت تعمّقاً مع مرور الوقت، وزيادة حجم التدخل الروسي والإيراني، وتحوّل النظام إلى دور الشريك الأضعف في الصراع السوري داخلياً وإقليمياً ودولياً، وهذا يكشف أنه ليس هو الوحيد من يدير لعبة الحل السياسي وفق القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن، وفي مقدمتها القرار 2254.

تنفيذ هذا القرار يتناقض مع مصالح النفوذين الروسي والإيراني في سورية، ومع صراع هاتين الدولتين مع المجموعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومع حلف هذه المجموعة بامتداده الإقليمي عربياً وغير عربي، ووفق هذه الحقائق، لا يستطيع نظام الأسد أن يتصرف بمفرده ويتخذ قرارات حيال مبادرات خارجية مختلفة، لإيجاد حلٍ سياسي للصراع في سورية، أو لإعادة علاقاته مع محيطه الإقليمي.

هنا يمكن طرح السؤال بصورة أكثر شفافية، والقول بصوتٍ مسموع: من الذي يقف خلف قرارات الأسد بوضع شروط لعودته إلى الجامعة العربية.

الأسد الذي ادعى قبل سنوات قليلة أنه انتصر على المؤامرة الكبرى، التي تستهدف سورية، لم يقل الحقيقة، فهو لم ينتصر بالمطلق، وحليفاه الإيراني والروسي وصلا بعملية الصراع في سورية إلى طريق مسدودة، حيث لم يستطيعا حسمها عسكرياً، ولا مقدرة لديهما لرفع العقوبات المطبقة بحق النظام، ولا يمكنهما إعادة إعمار سورية وفق المعادلة القائمة حالياً، مما أدّى إلى جمود التفاوض حول القرار 2254 عبر اللجنة الدستورية المعنية بالتوصل إلى توافق حول دستور جديد، أو تعديل دستور عام 2012، بما يتفق مع الانتقال السياسي وتغيّر خارطة القوى على الأرض.

روسيا وإيران، اللتان ظنتا أنهما كسبتا الحرب في سورية، أدركتا لاحقاً أن تكلفة بقائهما باهظة للغاية، سيما، وأن ظروفهما الحالية هي غير الظروف التي قادرتهما إلى التدخل لصالح نظام الأسد، فالملف النووي الإيراني لا يزال قيد الجمود، بعد أن انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية منه في عهد دونالد ترامب، وكذلك، لا تزال إيران تعاني من الحصار الغربي عليها، وتفجّر الانتفاضة الشعبية التي لا تزال مستمرة فيها وتهدّد نظام حكم الملالي.

الروس الذين انخرطوا في حرب عدوانية ضد أوكرانيا في شباط / فبراير عام 2022، وجدوا أنفسهم في حالة استنزاف عسكري واقتصادي، وهذا جعلهم بمواجهة الحلف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، هذا الحلف يدعم صمود أوكرانيا، ويفرض عقوبات اقتصادية عليهم، مما غيّر في مقدرتهم دعم نظام الأسد اقتصاديا.

هذه الظروف لدى حلفاء أسد هي من دفعهم للبحث والعمل على تغيير سياساتهم السابقة بخصوص الملف السوري، فهم باتوا في ظروف تستدعي استمرار نظام الأسد، وفي الوقت ذاته دفع الأسد نحو انفتاح مع محيطه العربي لقاء تنازلات سياسية محدودة لا تمسّ بقاءه في السلطة، وهذا ظهر من خلال طرح المبادرة العربية لعودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية، هذه العودة ترفع عن كاهل حليفيه الإيراني والروسي دعمه اقتصادياً، وتساعد في التنصل الجماعي من تنفيذ القرار 2254.

لكن الدول العربية المتحمسة لتطبيع علاقاتها مع نظام أسد، رسمت في مخيلتها أنها قادرة على تخفيف وإضعاف الوجود الإيراني في سورية، وهيمنته على القرار السياسي في هذا البلد، وهذه رؤية ذاتية لا تجد تأييداً لها في الواقع، إذ أن نظام أسد لا يملك هامش المناورة واتخاذ القرار خارج النفوذ الإيراني، وهو لا يستطيع أيضاً إغماض عينيه عن الحليف الروسي الذي منع بقوته العسكرية سقوطه عن الحكم.

هنا يتضح الأمر جلياً، الأسد ليس هو صاحب القرار النهائي في تطبيع علاقاته مع تركيا، وهو أيضاً ليس صاحب القرار في عودة علاقاته مع محيطه العربي، لذا تبدو محاولات تركيا للتطبيع مع نظام أسد هي مجرد محاولات جادة لترسيخ الدور التركي في المعادلات السياسية الخاصة بالحل السياسي، وهي ورقة لا يملك النظام اتخاذ قرار فيها، حيث تقف إيران بالمرصاد لأي حضور أقوى لتركيا في سورية، لأنها تدرك أن هذا الحضور من خلال ما يسمى (شرعية نظام أسد الموجودة دوليا) سيضعف حضورها، ولهذا أصرّت على الانضمام للمحادثات الثلاثية (الروسية التركية ونظام الأسد) التي ترعاها موسكو، فصارت محادثات رباعية، وهذا يساعدها على عرقلة أي توافقات تضعفها في سورية.

الأمر ذاته ينطبق على محاولات إعادة العلاقات السعودية مع نظام أسد، فعدا الرهان على تقوية الحضور العربي في سورية من خلال التطبيع مع نظامها، فإن حاجة السعودية لعلاقات طبيعية مع إيران في ظل احتمال شنّ عمليات عسكرية أمريكية وإسرائيلية على المفاعلات النووية الإيرانية، سيجنبها بالضرورة تلقي ضربات الصواريخ الإيرانية، وتستفيد إيران من منع السعوديين أي طائرات مقاتلة تهاجمها عبر الأجواء السعودية. كذلك فعودة العلاقات الإيرانية السعودية هي قيد الاختبار، وهذا يجب أن يظهر بحل الصراع في اليمن وامتناع إيران عن تزويد الحوثيين المرتبطين بها بالسلاح.

والسؤال الكبير الذي يجب طرحه: ماذا تستفيد الدول التي تسعى للتطبيع مع نظام أسد اقتصادياً وسياسياً؟ وهل بمقدور نظام مرتهن لحماته أن يقدّم لهذه الدول أي شيء خارج إرادتهما؟

الجواب، النظام لا يمكنه اتخاذ قرارات بهذا الحجم سياسياً، فإذا لم تضمن إيران وروسيا المحافظة على مصالحهما، ولم تضمن موافقة أمريكية على هذا المسار فكل شيء سيكون بلا قيمة حقيقية، سوى إطالة عمر معاناة الشعب السوري.

بقي أن نقول هل ستنجح السعودية بدعوة نظام الأسد للقمة العربية التي ستعقد أواخر أيار على أراضيها؟ سيما مع وجود ثلاث دول عربية رافضة لعودة هذا النظام إلى الجامعة العربية، هذه الدول هي الكويت وقطر والمغرب.

هذا السؤال يجد جوابه في الأسابيع القليلة القادمة.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا