ذاكرة سوريا كبلد المجازر والمقابر الجماعية

الكشف عن مجزرة حي التضامن في ريف دمشق، هو أشبه برحلة متأخرة تسع سنوات الى التاريخ، تستكمل مهمة الحفر في ذاكرة الحرب السورية، والتنقيب عن أشد مكوناتها توحشاً، وهو أقرب الى زيارة مؤجلة الى مقبرة ليس فيها قبور ولا شواهد ولا حتى أرقام..مثلها مثل عشرات المقابر الجماعية التي باتت تغطي مساحة سوريا.

المهمة جليلة بلا شك، ليس فقط لأنها تقاوم النسيان، بل لأنها تؤسس للمحاسبة والعدالة ولو بعد حين.. فضلا عن أنها تلفت الانتباه الى أن الحرب السورية لم تنته، ولم يتوقف القتل الجماعي، وبالتالي يمكن ان تسهم في ردع مرتكبي الجرائم الجماعية، ولو بشكل عابر، وجزئي، كما يمكن ان تعيد تسليط الضوء على تلك الحرب المهمشة.

شأن السوريين التدقيق في الوقائع والاسماء والتواريخ، وفي رسم خريطة مفصلة للمقابر الجماعية، وفي تحويل تلك النتائج الى محاكمات دولية، تحمي من تبقى منهم الداخل السوري، وتنصر المهجرين الذين لم يبق لهم سوى ذلك الرجاء..وتكون في المستقبل أحد أسس إعادة بناء سوريا الدولة والمجتمع.

لكن أصعب ما في الكشف عن مجزرة حي التضامن، انه لا يخترق جدار الصمت المحيط بالحرب السورية، وبالتالي لا يفتح ثغرة في مساعي إنهائها، على الاقل من زاوية ضم ملف تلك المجزرة الى ملفات المجازر التي ترتكبها روسيا في أوكرانيا..أو ربما التكهن بأن الغرب يمكن أن يستخدم سوريا كجبهة مواجهة خلفية مع روسيا، عندما تبلغ الحرب الاوكرانية ذروتها الروسية.

التوجه الى الغرب مجدداً، لوضعه أمام مسؤولياته، لم ولن يجدي نفعا. لا سيما بعدما تغيرت الاولويات الغربية، التي لم تكن في الاصل مؤاتية للسوريين، لا في الموقف من النظام ، ولا حتى في مقاربتها القضائية الخجولة للفظائع الانسانية التي شهدتها سوريا طوال السنوات ال11 الماضية.

يبقى ان أغرب ما في الكشف عن مجزرة حي التضامن، أنه لم يحرج النظام ولم يحرك المعارضة، بإعتبار ان الامر من عاديات الحرب وطبائعها: ليس هناك جديد يستدعي مثلا أن يزعم النظام، كما جرت العادة، وجود تزوير أو تلفيق او تلاعب في الفيديو . وليس هناك جديد يتطلب من المعارضة ان تتعامل مع الأمر كملف وطني، قضائي وسياسي، لا يقتصر على بقعة جغرافية محدودة، خارج نطاق ولايتها “النظرية”، ويستدعي ربما مراجعة خيار التفاوض مع النظام.

التسليم الضمني السوري بأنه لم يكن هناك حدث إستثنائي، يفقد مساعي وقف الحرب أهم حوافزها، ويحيل الى الاستنتاج بأن النظام لم ولن يتوقف عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، وبأن المعارضة، بمؤسساتها الحالية، لم ولن تصبح مؤهلة لإنتاج عملية سياسية بديلة للمسار الحالي المعطل، ولم ولن تمتلك جرأة محاسبة القوى المناهضة للنظام، التي ارتكبت مجازر مشابهة لمجزرة حي التضامن..عدا عن التنظيمات الاسلامية التي تلطخت ايديها بالدماء قبل ان تصادر البيئة المعارضة وتحرمها من مقارعة النظام بالطريقة الانسب والاجدى.

وبانتظار ان يحين موعد تحويل الحفريات في ذاكرة الحرب السورية الى قاعدة او حجة لعمل سياسي تأسيسي، سيبقى الكشف عن أي مجزرة جديدة أو مقبرة جماعية اضافية، هو المخرج الوحيد المتاح من دوامة البحث عن السلام السوري المرتجى.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا