على ماذا تكافئ واشنطن الأسد؟

في وسط الأسبوع المنصرم شاع خبر رفض البيت الأبيض إدراج قانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” ضمن التشريعات المستعجلة التي أقرها الكونغرس، ومنها على نحو خاص حزمة المساعدات المقدَّمة إلى أوكرانيا وإسرائيل. وسبق ذلك بنحو عشرة أيام أن أوحى بشار الأسد، في حوار له مع وزير خارجية أبخازيا، بأن التواصل بينه وبين واشنطن قائم ولا يُستبعد وصوله إلى نتائج “إيجابية” بخلاف ما هو معلن حتى الآن.

في إثر الحوار والخبر عادت إلى الواجهة التحليلات والتكهنات حول تحسّن في العلاقة بين واشنطن والأسد، وعاد معهما تقصّي الأسباب المحتملة للتطور الجديد. وهي ليست المرة الأولى التي يُشيع فيها البعض فرضية تحسّن العلاقة بين الطرفين، إلا أن الانتباه هذه المرة انصرف عن ملفّات قديمة، مثل علاقة الأسد بإيران وتجارة الكبتاغون، إلى سلوكه إزاء الحرب على غزة حيث من الواضح جداً أنه نأى بنفسه عن الانخراط فيها، بخلاف حليفه الإيراني الذي استخدمت ميليشياته الأراضي السورية في قصف قواعد أمريكية في سوريا أيضاً، وفي مرات نادرة أطلقت الميليشيات ذاتها قذائف بلا فاعلية حقيقية تجاه إسرائيل.

بموجب التصور السابق، فُهِم تأخير البيت الأبيض تفعيل قانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” بوصفه مكافأة له على موقفه من الحرب، بل ذهب البعض إلى احتساب موقفه من الحرب التحاقاً بمواقف بلدان عربية مطبِّعة أو في طريقها إلى التطبيع مع إسرائيل. على ذلك احتُسب موقف الأسد افتراقاً عن إيران، لأن البلدان المعنية ذاتها قادت عملية التطبيع العربي مع الأسد، وقيل حينها أنها فعلت ذلك بتغطية من واشنطن ضمن مجموعة اشتراطات، منها ابتعاده عن طهران.

ورغم عدم استبعاد عنصر المفاجأة في السياسة فإن التحليلات الشائعة بين وقت وآخر تغفل عن معطيات علنية جديرة بالملاحظة، وهي أجدر بالتأكيد من صورة الأسد الذي يُراد اجتذابه من الحضن الإيراني، وتُقدَّم له المغريات والمكافآت على أنه قادر على ترك ذلك الحضن متى شاء. ولا تقلّ عنها، من حيث الانتشار المجاني، صورة الأسد الذي يُكافَئ على حسن نيته تجاه إسرائيل، وكأنه واجهها من قبل أو قادر على أكثر من تلقّي ضرباتها على الأراضي السورية ضمن اشتباك مع إيران لا حيلة له فيه.

أول المعطيات الجديرة بالملاحظة أن البيت الأبيض منذ عهد أوباما أظهر ميلاً صريحاً إلى احتكار الملف السوري، أي إبعاده قدر الإمكان عن تدخلات الكونغرس، وحتى عن الموظفين الكبار في الخارجية ومجلس الأمن القومي. والوضعية التي يريدها البيت الأبيض تتماشى مع احتفاظه بقوات أمريكية في سوريا لا تحظى بتغطية الكونغرس الذي يمنح عادة الإذن بالحرب، ولا يوجد هدف معلن للبيت الأبيض من وجود القوات بحيث تنسحب مع تحقيقه، بما أن هدف التخلص النهائي من داعش بمثابة اللاهدف.

لا يستعصي الاستنتاج بناء على ذلك أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد 2011 تتعامل مع الأسد كملف ثانوي ضمن ملفين أشد أهمية، هما العلاقة مع طهران والعلاقة مع موسكو. ينطوي ضمن السياق أن تتعاطى الإدارة معه كصندوق رسائل موجَّهة إلى طرف منهما، بمعنى أن تخفيف الضغط عنه أو زيادته غير مستقلين عن حسابات البيت الأبيض تجاه موسكو وطهران، أو تجاه واحدة منهما. أي أن الإطار العام للتعاطي الأمريكي لم يختلف عمّا كان عليه أثناء مفاوضات الملف النووي الإيراني في عهد أوباما، ورغم الاشتباك مع موسكو في أوكرانيا بقيت القواعد القديمة للعلاقة معها في سوريا مستمرة.

أبعد من تاريخ اندلاع الثورة عام 2011، يصحّ القول أن واشنطن وجهت الضربة الكبرى للأسد عندما أرغمته على سحب قواته من لبنان قبل 19 عاماً، ليفقد وزنه وتأثيره الإقليمي وتتعزز تبعيته لطهران أكثر من قبل. ومنذ ذلك التاريخ فقد الورقة التي كان يبتز بها بعض القوى الإقليمية، الورقة التي كانت أيضاً رأسماله في اللعب مع إسرائيل. في الواقع كانت قوة الأسد الأب الإقليمية مقترنة إلى حد كبير بدخول قواته إلى لبنان “بموافقة أمريكية آنذاك”، والكثير من التصورات أو الأوهام حول وزن الأسد الوريث يعود إلى الصورة الموروثة عن تلك العقود الأربع ليس إلا.

وراء الإبقاء على الصورة القديمة لمكانة الأسد تكمن لدى كثر الرغبة في الإبقاء على صورة “المكانة الاستراتيجية” لسوريا، المقولة التي دأبت السلطة على تكرارها، ووجدت لها سوقاً واسعاً بين سوريين يتمنون لبلدهم أن يكون ذا شأن حقاً. كان ذلك ماثلاً في الأذهان إلى حد مؤثّر مع انطلاق الثورة، حيث كان ثمة تعويل صريح أو مضمر على أن مكانة سوريا المتخيَّلة ستدفع واشنطن والغرب عموماً إلى اغتنام فرصة الثورة للانقضاض على الأسد.

ورغم تكرار الإشارات والحديث عن تغلغل النفوذ الإيراني في سوريا، هناك ميل إلى التقليل من شأنه إجمالاً، بحيث لا تُستنتج من الحديث خلاصات مطابقة له. في هذا السياق تبدو أقرب إلى الواقع تصريحات مسؤولين إيرانيين تفاخروا بالسيطرة على سوريا، وبما يدحض الفرضيات المتعلقة بقدرة الأسد على الابتعاد عن طهران متى شاء، أو متى اقتضت مصالحه، إن بقي من معنى فعلي للحديث عن مصالح سياسية خاصة به.

يتكامل الوهم حول مكانة سوريا مع ما يشبه إنكاراً لفحوى السيطرة الإيرانية، وعليه تتناسل فرضيات وتكهّنات تعبّر عن الأوهام أكثر مما تتوخى قراءة الواقع. وكنموذج على ذلك يُستعاد بين الحين والآخر الحديث عن محاولات عربية، مدعومة أمريكياً، لإبعاد الأسد عن إيران؛ الحديث الذي لا يتوقف مثلاً عند توقيت التطبيع السعودي مع الأسد وتزامنه مع التطبيع السعودي-الإيراني. والنموذج الآخر الراهن هو تكرار الحديث عن موقف الأسد اللامبالي إزاء حرب إسرائيل على غزة، وكأن موقفه ناجم عن اقتدار، وليس ناجماً عن ضعف مزدوج، الضعف إزاء القوة الإسرائيلية وفقدان القرار لصالح طهران وموسكو.

لا معنى للحديث عن مكافأة أمريكية للأسد ما دامت سوريا، بأكملها أو مقطَّعة، قد أصبحت مكافأة غير ثمينة تُقدَّم لهذه الجهة الإقليمية أو لتلك القوة الدولية. فهْمُ هذا قد يكون ضرورياً لفهم مكانة الأسد، بما فيها الضعف الذي يساعده على البقاء! إلا أنه ضروري أيضاً لتقييم وزن سوريا بمعزل عن الأوهام، وهي مهمة عسيرة على السوريين لشدة ما هي موجعة ولما تتطلبه من واقعية.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا