لماذا لم تتنبأ إسرائيل بهجوم حماس؟

كيف لم تعلم اسرائيل بشأن الهجوم؟ ما هي الاحتمالات الممكنة؟ ما الذي يجب البحث فيه بدلاً من نظريات المؤامرة؟ ماهي الحالات التي يمكن أن يحدث فيها فشل استخباراتي؟ ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا الحدث؟

 منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، نتابع عملية تصاعد النزاع بين “حماس” و”إسرائيل”، حيث قامت حماس بشن هجوم “مفاجئ” أسفر عن خسائر كبيرة لإسرائيل.

تمت العديد من التحليلات والتقييمات حول أسباب الهجوم وتوقيته وخلفيته، ولكن منذ بداية الهجوم كانت عبارة “صدمة مفاجئة” موجودة فيها كلها : ” كيف لـ “إسرائيل” أن لا تلاحظ هجوماً لحماس بهذا الحجم؟ ذلك غير ممكن…”.

نظريتا مؤامرة

بعد الشعور بالمفاجئة، ظهر امامنا تفسيرين رئيسين:

التفسير الأول والأكثر شيوعاً يتضمن نظريات المؤامرة.

إحدى نظريات المؤامرة تُبنى على فرضية مفادها أن إسرائيل عِلمت بالهجوم، ولكنها لم تتدخل لرغبتها باستخدام الهجوم كذريعة لتدمير غزة.

والنظرية الأخرى تعتمد على وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في موقف صعب داخلياً، وفقاً لهذا الافتراض، وبعد مواجهته لاحتجاجات كبيرة مستمر لمدة عامين وصعوبة إدارته للبلاد، سيستغل نتنياهو هذا الهجوم لتقوية موقفه السياسي، وبالتالي سيتم تعطيل او تجاهل جميع المبادرات التي تدعو للسلام أو أي تشكيلات تعارض نتنياهو، ويمكن أن تكون هناك تفسيرات أخرى من نظريات المؤامرة هذه، ولكن بعد فترة، توقفت عن متابعتها والاستماع إليها.

الفشل “الاستخباراتي” التفسير الأكثر شيوعاً

أما التفسير الثاني فكان يقوم على مفهوم “الفشل الاستخباراتي” وأن إسرائيل تعاني من ضعف استخباراتي. أرى هذه الطريقة لتفسير الامر أكثر واقعية، الخبراء في الأبحاث والدراسات حول الاستخبارات يعرفون أن “الفشل الاستخباراتي” هو في الواقع أمر شائع أكثر مما كان يُعتقد، ونظراً لمفهوم السرية التي هي أساس الاستخبارات، فإن الجزء المتعلق بالفشل لا يتم مناقشته كثيراً.

لكن تاريخ الحروب والمهام والعمليات وحتى اتفاقيات السلام يزخر بكثير من قصص “الفشل الاستخباراتي”، حتى أن العديد من وكالات الاستخبارات تقوم بتصحيح أخطائها بناءً على إخفاقاتها، وتحاول وكالات استخبارات أخرى التعلم والاستفادة من الدروس مما حدث لنظيراتها أيضاً.

في هذه المرحلة، سأحاول تفسير لماذا لم تتمكن “إسرائيل” من توقع هجوم حماس تحت ثلاثة عناوين أساسية، والتي سأتناولها في إطار مفهوم “الفشل”:

1-تطوير حماس لقدراتها الاستخباراتية. 2- الأخطاء في تقييم التهديد الأمني ​​الذي تواجهه إسرائيل. 3- تداعيات الأزمة السياسية الطويلة الأمد في إسرائيل على القدرة المؤسسية.

القدرات الاستخباراتية المتقدمة لحماس

لنبدأ بالعامل الأول: في معظم الأمثلة على فشل الاستخبارات لا يقتصر الخطأ على طرف واحد، والممارسات “الناجحة” للطرف الآخر تضع حجر الأساس لفشل الخصم، ويبدو أن «النجاح» الأهم لحماس وإيران في الحادثة الأخيرة هو قدرتهما على إخفاء نواياهما وامكاناتهما، لا تسأل من أين جاءت إيران، هذا السؤال ليس موضوع هذه المقالة- اسمحوا لي أن أكتب رأيي: من الواضح أن إيران لعبت دوراً رئيسياً في التخطيط لهذا الهجوم واللوجستيات وتنفيذه، فقد قام “أبو عبيدة” المتحدث باسم عز الدين القسام والذي يعتبر الجناح العسكري لحماس بشكر إيران علناً، لذلك لا داعي للحديث مطولاً عن الدور الإيراني، ودعونا نعود لمسألة القدرة هذه.

الخبراء والباحثين في القضايا الأمنية يركزون عموماً على أجهزة المخابرات في الدول، وغالباً ما تتم مناقشة كيفية قيام الدولة “أ” أو “ب“ىبالتحقيق في قضية ما، أو إلقاء القبض على إرهابي، أو إيقاف أنشطة دولة أخرى.

ولكن المنظمات “الإرهابية” وغيرها من الجهات الفاعلة غير الحكومية قد يكون لديها أيضاً وحدات استخبارات خاصة بها، وفي بعض الأحيان تستطيع هذه الوحدات القيام بمعظم الأنشطة التي تقوم بها الدول في إطار وسائلها وإمكاناتها الخاصة، وعلى سبيل المثال من المعروف ومنذ زمن طويل أن حماس حصلت على الكثير من المعلومات حول نيات إسرائيل وإمكانياتها وقدراتها من خلال إجراء استخبارات مفتوحة المصدر.

من يتابع إسرائيل يعلم؛ أن وسائل الإعلام “الإسرائيلية” تعطي وبشكل متكرر مكانة وتضمين لآراء الاستخباراتيين السابقين، وخبراء الجيش، وأكاديميين يعملون في مجال الأمن. في الواقع، فإن اللجوء إلى آراء وتقييمات مثل هؤلاء الخبراء هو ممارسة شائعة وصحيحة في الأنظمة الديمقراطية لإشعار الرأي العام بشكل صحيح.

ومع ذلك، يبدو أن الخبراء في إسرائيل ربما بالغوا قليلاً في هذا العمل، فكما ذكر في تقرير لجنة “وينوغراد= فينوغراد ” التي أُنشئت للتحقيق في أسباب فشل إسرائيل في حربها مع حزب الله عام 2006، فقد تمكنت حماس وحزب الله من استخلاص استنتاجات كثيرة من التقييمات في وسائل الإعلام لفهم النهج التكتيكي والوضع العام لإسرائيل.

قدرة حماس على جمع المعلومات من مصادر مفتوحة بالطبع ليست مقتصرة على تقييمات الخبراء، إحدى الشخصيات البارزة في حماس أشارت إلى أن هناك الكثير من الأمور يمكن أن يتعلمها المرء من تصريحات مفتش شرطة بعد هجوم بقنبلة قائلاً: “إذا استخدموا المزيد من القنابل، لما كان بإمكاننا منع تأثيرها.”

لنفترض أن حماس تتعلم من التلفزيون والراديو والصحف عن النهج العام لإسرائيل واستراتيجيتها، حتى بعض الأهداف العملية، فهل يفسر هذا سبب ضعف “إسرائيل” بهذه الطريقة؟ أعتقد أن الإجابة نعم، لأن إدراك أن “إسرائيل” لم يعد يُنظر إليها على أنها مصدر تهديد مهم لمدة عامين كما كانت في السابق، يجعل أنشطة التمويه المختلفة أسهل، لكن هذا لا يمكن إلا أن يعطينا فكرة عن قدرة حماس على التقييم والتحليل.

لماذا لم تعلم اسرائيل بالهجوم؟

السؤال الحقيقي هو: كيف لم تعلم إسرائيل بالهجوم؟

دعني أتوسع بهذا السؤال قليلاً. حسنًا، حتى إذا لم تتمكن إسرائيل من معرفة ذلك، هناك العديد من الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة الامريكية والأردن ومصر والمملكة العربية السعودية وغيرها، لديها مصادر إخبار قوية داخل حماس وحتى شبكات إخبارية، وكما يُقال، إن هذه العملية التي تم التخطيط لها لعدة أشهر وشارك فيها مئات الأشخاص، لماذا لم تجذب انتباه الدول الأخرى؟

عند هذه النقطة، لنبدأ باستخدام تقنية التحليل التي سنطبقها بعد قليل.

برأيي أن الافتراض بأن حماس كانت تستعد لهذا الهجوم منذ أشهر ليس صحيحاً، إذا كانت هناك تكنولوجيا متطورة وآلية جيدة للقيادة والسيطرة، فإن مثل هذه العملية لا تحتاج إلى التخطيط لعدة أشهر، فكلما طالت مراحل التخطيط والاستطلاع والتدريب التفصيلي كلما زادت احتمالية الكشف. وبهذه العملية قامت “حماس” بخطوة جمعت بين قدراتها المختلفة، وبخلاف ذلك يوجد القليل جدًا مما فعلته من قبل ولم تفعله الآن، وكان الجميع يعلم ويقيّم تطور قدرات حماس المتنوعة، ولكن مهما كنت تمتلك من معلومات “إذا لم تعرف نوايا العدو، فإن معنى المعلومات التفصيلية المتاحة يقل”. فمعرفة النية يمر عبر وجود معلومات استخباراتية بشرية.

هل إسرائيل لا تعرف كل خطوة تقوم بها حماس؟ في هذه النقطة، يجب كسر التحيز أوعلى الأقل التشكيك بذلك، ماذا لو كان هناك ضعف في قدرة إسرائيل على الحصول على معلومات استخباراتية بشرية من داخل حماس؟

استخبارات حماس المضادة

في العام 2022 ذكرت مجلة دراسات استخباراتية مشهورة عالمياً أن “حماس” اكتشفت وجود عملاء تم اختراقهم في صفوفها لفترة طويلة ووجهت هؤلاء الأفراد للعمل كعملاء مزدوجين؛ وتم نشر مقال يشرح بالتفصيل كيف تم جمع معلومات من الطرف الاخر وتضليل الطرف الآخر.

يعني، لا يتم تنفيذ أساليب مكافحة التجسس من قبل الدول فقط، بل يمكن للمنظمات القيام بذلك أيضاً، فإذا تم اختصار وقت التخطيط التشغيلي والتنفيذ، فقد يكون من السهل الحفاظ على السرية وحتى إقناع الطرف الآخر بأن لديك أهدافاً أخرى، وأعتقد أن هذا هو التفسير الأول غير الإسرائيلي لعدم تمكن إسرائيل من معرفة هذه العملية. والآن نأتي إلى البند الثاني.

لماذا لم تتمكن “إسرائيل” من تقدير التهديدات ضدها؟

بالطبع قد أكون مخطئاً، ولكن “إسرائيل” كانت ترتكب منذ بعض الوقت خطأً جوهرياً في تقدير التهديدات ضدها، وتدفع ثمناً باهظاً لهذا الخطأ، وأستطيع القول بانني لجأت إلى أسلوب التحليل لفهم خطأ هذا الافتراض.

هناك بعض تقنيات التحليل المعروفة في مجال الاستخبارات تم تطويرها باستخدام أساليب متعددة التخصصات لتحسين عمليات تحليل الاستخبارات وأصبحت منتشرة في مجال دراسات الاستخبارات على مدى حوالي 20 عاماً، على الرغم من أن معظم تقنيات التحليل المعنية تم تطويرها من قبل خبراء في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هناك بالطبع مساهمات مهمة جداً من بلدان أخرى.

واحدة من أبسط تقنيات التحليل هذه وأكثرها فعالية هي مراجعة الافتراضات الأساسية في بداية التحليل الاستخباراتي الاستراتيجي. هذه التقنية التي تعتمد على اختبار دقة الافتراضات الأساسية التي تم اعتبارها صحيحة لفترة طويلة قبل الشروع في تحليل مفصل ومطول، تظهر في العديد من الدراسات.

عندما أنظر إلى تقييمات التهديد الإسرائيلي، على الأقل في المصادر المفتوحة، أستطيع القول إنني وجدت نقطة ضعف كبيرة تمتد لفترة طويلة.

يمكن العثور على العديد من الدراسات في السنوات الأخيرة والتي تذكر وتحلل التهديدات الأمنية التي تواجه “إسرائيل”، والعديد من هذه الدراسات تمت كتابتها بواسطة أشخاص كانوا يعملون سابقاً في الجيش الإسرائيلي أو في جهاز المخابرات، وعندما انهى هؤلاء مسيرتهم المهنية انتقلوا إلى الاوساط الاكاديمية أو مراكز الابحاث.

يمكن ملاحظة أن الكثير من تقديرات التهديد التي كتبها هؤلاء الأشخاص تسلط الضوء على إيران كمصدر رئيسي للتهديد، ومن الواضح أن أول عنصر في التهديد الاستراتيجي الذي يمكن أن يأتي من إيران هو جهودها في الحصول على أسلحة نووية، وتأتي بعد ذلك الهجمات الصاروخية من حزب الله وحماس.

تُشير معظم تقديراتهم إلى أن كِلا المنظمتين قامتا بإنتاج آلاف الصواريخ ذات التكلفة المنخفضة والقدرة المحدودة على إصابة الهدف، وأن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي لا يمكنه اعتراض كل هذه الصواريخ، لذلك يجب اتخاذ تدابير لمواجهة هذه القدرات.

وحتى عند إجراء تحليل أعمق، يمكن ملاحظة أن التهديدات التي تواجه إسرائيل تشمل الصواريخ والطائرات بدون طيار المسلحة (ليست الطائرات المتطورة وإنما الطائرات التي تحمل متفجرات وتُطلق على الأهداف)، وأنشطة مجموعات إرهابية، والعمليات الفردية، والهجمات السيبرانية، وأنشطة المنظمات التي تستخدمها إيران كوكلاء، وأسلحة الدمار الشامل وما إلى ذلك.

يمكنك القول: ” لقد رأينا جميع هذه الأمور في اليومين الاولين من الهجمات، إذاً يمكن لإسرائيل أن تتوقع كافة التهديدات الموجهة إليها.” ولكن، ليس هذا واقع الحال بالضبط، حيث تشير معظم التقييمات إلى أن “حماس” أو منظمات مشابهة قد تكتفي بشن هجمات محدودة داخل إسرائيل ومحاولة توريطها في صراع، مع استخدام الصواريخ للتسبب في أضرار. بمعنى آخر، تم تحديد البنود بنداً بنداً. حسناً، إذاً أين كانت المشكلة؟

الثقة بالنفس

أعتقد أن المشكلة الرئيسية هنا هي الثقة المفرطة بالنفس.

فكما نحن نشاهد ما يحدث في العالم من مناطق أخرى، يعتقد المحللين في “إسرائيل” أيضاً بأن النزاع في غزة سيستمر بعد هجوم قصير الأمد، فليس من المتوقع أن ان تبقى “إسرائيل” تحت ضغط طويل الأمد.

“يهاجمون ثم ينسحبون ويحاصرون داخلياً، يجب أن نكون مستعدين لهذا…” هذا هو النهج السائد، وهناك ثلاثة أسباب رئيسية لهذا النهج على ما يبدو: الثقة الزائدة بالنفس، والأحداث الأخيرة التي نعيشها، والاعتقاد بأن حماس هي جزء من توازن الشرق الأوسط بصفتها مسؤولة عن إدارة منطقة معينة على المدى الطويل.

لأوضح هذه النقاط قليلاً: الثقة بالنفس الزائدة تستند إلى الاعتقاد بأن إسرائيل أصبحت متفوقة على منافسيها منذ حرب 1967، وفي الواقع، لا يمكن لأي منا أن يعارض القول بأن إسرائيل تمتلك جيشاً أقوى من جميع جيرانها كقوة تقليدية، ولكن، منذ حرب 1973 لم تحقق أية مكاسب صافية من أي صراع دخلته أو عمليات قامت بها.

اضطرت للانسحاب من لبنان الذي احتلته في عام 1982؛ تلقت ضربة قوية من حماس وحزب الله في عام 2006، وفي عام 2014 دخلت غزة لمواجهة حماس، ولكن دون أن تحقق أي نتيجة واضحة، وبالتالي يظهر أن القوة التقليدية التي تمتلكها ضد الدول الجارة ليس لها نفس التأثير على الجهات الفاعلة غير الحكومية، يعني هناك ثقة كبيرة بالنفس ناتجة عن الانتصارات في الماضي.

والأمر الآخر هو ما حدث في الماضي القريب

إن طبيعة الصراعات التي انخرطت فيها إسرائيل مع حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني منذ عام 2006 متشابهة للغاية، حيث تقوم هذه الجهات بالهجوم على “إسرائيل” ثم “يعودون”، فيذهب الجيش الإسرائيلي ويدمر كل شيء. الشيء الوحيد الذي تغير هو القدرة الصاروخية لهذه المنظمات، ولم يُنظر إليها على أنه تهديد استراتيجي، بل مشكلة تشغيلية(تكتيكية).

إن فكرة تحول “حماس” إلى جزء من المعادلة الإقليمية كانت خطأً فادحاً، وقد ظهر هذا جلياً حتى في التقييمات بعد العملية في غزة ضد قيادة الجهاد الإسلامي في أيار/ مايو 2023.

باختصار، يمكننا القول إن السبب الرئيسي لعدم تمكن إسرائيل من توقع هذا الهجوم هو تقديرها الخاطئ للتهديد.

لا أعتقد أن المخابرات الإسرائيلية لم ترصد الاستعدادات التي قامت بها حماس على المستوى المعلوماتي الفردي، ومن غير المرجح أن دولة تمتلك قدرات مثل جمع المعلومات البشرية والمراقبة والتنصت الإلكتروني واعتراض الإشارات وقدرات اخرى لن ترى ما تفعله حماس، ولكن الفرق يبدأ هنا بين رؤية ما يحدث وتحليله.

حتى إذا قمت بتطوير عملية تحليل المعلومات الاستخباراتية الجديدة التي تدمج التجميع والتحليل في إطار “الاستخبارات متعددة التخصصات” مثل المخابرات العسكرية الإسرائيلية، فإن العادات القديمة تتطلب يقظة مستمرة تحسباً للمفاجآت الجديدة.

أثر الصراعات الداخلية في إسرائيل على قدرتها في التصدي للتهديدات أيضاً

العامل الثالث: هو عامل يمكن أخذه في الاعتبار مع تقييم التهديد، ولكن يمكن تفسيره أكثر في إطار التطورات السياسية الداخلية.

كما نعلم، شهدت الحياة السياسية في إسرائيل تقلبات كبيرة في العامين الأخيرين، وخلال عام 2023 أصبح المجتمع والسياسة في إسرائيل متوترين للغاية لدرجة أنه من المستحيل عدم تأثر المؤسسات بذلك.

تذكروا أنه تبين مؤخراً أن بعض القوى الاحتياطية التي تعتبر المفتاح لجاهزية الجيش الإسرائيلي رفضت المشاركة في التدريبات نتيجة التوترات كرد فعل على الحكومة، ولكن قد لا تكون ردود الفعل العامة هي العامل الوحيد الذي يؤثر على قدرة القوات الأمنية.

أعتقد أن التحذيرات وتقييمات التهديد الصادرة عن قوات الأمن الإسرائيلية بدأت تلقى الرفض من قبل بعض صناع القرار أو كبار القادة لأسباب سياسية.

فعلى سبيل المثال، في تحليل كتب مؤخراً أن تقييمات قوات الأمن الإسرائيلية تجاه التهديد من فلسطين وإيران أو احتمال اندلاع حرب مرة أخرى قريباً قد تكون مرتبطة بإنقاذ الحكومة لنفسها وتحويل انتباه المجتمع إلى اتجاه آخر، ومن ثم أضيفت كتابات وتقييمات أكثر جدية بناءً على ذلك.

ومن المثير للاهتمام أنه في الأشهر الستة الماضية، ذكرت صحف مثل واشنطن بوست، والإيكونوميست، ولوموند، وهآرتس أن التهديد الرئيسي لأمن إسرائيل ليس إيران أو حزب الله أو حماس، بل حكومة إسرائيل ذاتها، وبدأت تظهر مقالات تفيد بأن القرارات السياسية التي اتخذتها الحكومة تهدد أمن إسرائيل بشكل دائم، علاوة على ذلك، مايجعل هذه المقالات مثيرة للانتباه إن مؤلفي هذه المقالات لم يكونوا سياسيين فحسب، بل كانوا أيضاً موظفين سابقين في قوات الأمن.

بعد تولي رئيس الأركان العامة الجديد منصبه في اذار/ مارس 2023، تم إجراء تقييمات تشير الى أن الصراع على السلطة بين الوزارات قد خلق ضعفاً في التسلسل القيادي، بالإضافة لذلك، عند ما نلقي نظرة عامة على السير الذاتية، يمكن ملاحظة أن المسؤولين الحاليين، ومنهم رئيس الأركان العامة، هم أشخاص ذوي خبرة عالية.

ويمكننا تلخيص هذه النقطة على النحو التالي: قد يكون تفاقم الانقسامات العميقة في السياسة الإسرائيلية قد أدى إلى استبدال التهديدات الخارجية البارزة بالتنافس السياسي الداخلي، ولا حاجة لقراءة مئات الصفحات لنقول إنه: حتى لو قمت بجمع أفضل المحللين في العالم وحصلت على أفضل المعلومات لديهم، وقدمت افضل التحذيرات، لان البيئة التي تشهد تسيس المخابرات والأمن تجعل من الصعب اتخاذ الاحتياطات اللازمة.

زبدة القول

باختصار، يمكننا شرح عدم تمكن إسرائيل من توقع هذه العملية التي أعدتها حماس في غزة بالتعاون مع مجموعات أخرى (وربما بالتنسيق مع وكلاء إيران) بثلاثة محاور رئيسية.

استطاعت حماس (بتوجيه من إيران) تحديد نقاط الضعف في إسرائيل بشكل جيد جداً، وأصبحت إسرائيل أسيرة عاداتها وتجاربها السابقة؛ وأصبح المجال الأمني جزءاً من الصراعات السياسية الشرسة.

الدروس التي يمكن استخلاصها

ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها هنا؟ كما ذكرت سابقاً، مفهوم “فشل المخابرات” مفيد لكل من المشاركين في هذا الفشل وللذين يتابعونه، وبالنسبة لنا كمراقبين يمكننا استخلاص بعض الدروس.

الدرس الأول: ” اذا سيطر تنظيم ما على إقليم ما، فانه لا يصبح مطواعاً على امل ان يكون جزءاً من المعادلات السياسية في المستقبل”، سيطرت حماس على قطاع غزة منذ 17 عاماً، تمت مناقشة إمكانية أن تصبح جزءاً من عملية السلام الفلسطينية -الإسرائيلية عدة مرات، ولكن بعد الأحداث التي جرت خلال اليومين الماضيين، تم تصفير هذا الاحتمال على الأقل لمدة 20 عاماً.

الدرس الثاني: يجب مراجعة تقييمات التهديدات بانتظام، حتى لو كنت تملك مصادر معلومات متعددة، فإن الحصول على المعلومات دون تحليل لا يساعدك في فهم الواقع الحالي والمستقبل.

الدرس الثالث: جميع التنظيمات تتعلم، والتقليل من أهمية ذلك هو أكبر خطأ، واليوم كم من المنظمات في العالم تتعلم دروساً من الأسلحة التي استخدمتها حركة حماس، ومن أساليب الهجوم، ومن هجمات الإنترنت، ومن اختطاف المدنيين، وأمور مماثلة؟

الدرس الرابع: نحن لا نشاهد التلفزيون فقط، ولا نستمع إلى المذياع فقط، ولا نقرأ الصحف فقط، قد تساهم جميع أنواع المعلومات والتعليقات والتقييمات غير الضرورية على مستوى العمليات والتكتيكي والاستراتيجي في افادة الطرف الآخر. هل رأيتم في أي وقت مضى شخصاً كان عضواً سابقاً في منظمة/ تنظيم ويخرج على التلفزيون ويناقش الفرص والقدرات ويقول كيف يمكن أن يتسبب في المزيد من الأضرار إذا دخل المبنى بطريقة معينة؟ الحصول على معلومات دقيقة هو حق أساسي في الديمقراطية، ولكن مراعاة التوازن يساعد على جعلنا جميعاً أكثر أماناً.

الدرس الخامس: لم يعد أي صراع ذو طرف واحد بعد الان، لا يوجد طرف قوي أو ضعيف، هناك طرف يستخدم ميزته النسبية بشكل أفضل.

هذه هي الدروس الأولى التي تتبادر إلى ذهني حتى الان.

ومن يدري ماهي الدروس الاخرى التي يتم استخلاص في أماكن مختلفة في العالم، انتظروا بعض الوقت وسنقوم جميعاً بإجراء تقييمات جديدة، المهم هو أن نضع نظرية المؤامرة جانباً.

نُشر هذا المقال لأول مرة باللغة التركية بتاريخ 9 تشرين الاول 2023، على موقع ” FIKIRTURU “.
ترجمه لـ”السورية.نت” نادر الخليل  زميل  في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”

المصدر Fikir Turu


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا