مأزق الأسد مع استحقاقات ما بعد التطبيع العربي

تُثبت هتافات التظاهرات العارمة ضد النظام الحاكم في سورية، والتي تجوب بعض المحافظات، ابتداء من جنوبها صخرة الكرامة، محافظة السويداء، إلى درعا، في امتدادٍ يؤكّد وحدتها مع سهلها (حوران)، وباقي المناطق المتمسّكة وشعارها “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، كذب ادّعاءات النظام السوري، في محاولته التأكيد زوراً أن الثورة السورية هي ثورة “أهل السنة” ضد “الأقلّيات”، على تنوّعهم وثراء سورية بوجودهم، ولعل سوريين كثيرين مؤيدين يدركون حالياً حجم تداعيات الشعار الذي ألزموا برفعه، منذ نحو 12 عاماً، “الأسد أو نحرق البلد”، متبنّين أن استمرار سياسة نظام الأسد حرقت البلد، وسارت به إلى تأزيم مشكلاته الداخلية والخارجية.

ويبدو على عكس ما تأمله ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، في كلمته في قمّة جدّة في 19 مايو/ أيار الماضي، “أن تشكل عودة سورية إلى الجامعة العربية إنهاء لأزمتها”، فقد تصاعد الحراك المعارض لسياسات النظام السوري السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وضع هذا الانقلاب السياسي العربي “التطبيعي” مع النظام الرئيس بشار الأسد أمام استحقاقات ما بعد الحرب، رغم إصراره على الإبقاء على فتيلها مشتعلاً لضرورات قمع البلاد تحت شعار “الحرب المستمرّة” وأن إمكانات البلد كلها لخدمة تلك الحرب المفتعلة. وقد أدرك السوريون ذلك، ما هيّأ لاستعادة ألق التظاهرات ضدّه، لإلزامه الذهاب نحو الحلول الضامنة لإحياء سورية، ومنها الحل السياسي الذي ينهي الصراع بما يحقّق العدالة للسوريين، ويفتح الباب على حلول حقيقية للواقعين، الاقتصادي والمعيشي، وقبلهما السياسي.

وبينما أخذ الأسد عودته “الشكلية” إلى الجامعة على أنها انتصار على العالم والعرب والسوريين، خرجت الأصوات في المحافظات السورية من السويداء ودرعا جنوباً إلى المناطق المحرّرة من حكمه شمالاً لتصحيح مفاهيم النظام السوري عن حسم المعارك والنصر، وأن استحقاقات السلام في سورية تبدأ من تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، (اللافتة) التي لم يتأخر المتظاهرون في رفعها منذ اليوم الأول لعودة السوريين إلى ساحات التظاهر.

مرّة جديدة، ومن باب التأكيد على الوعي الشعبي، الذي تحدّث عنه الأسد نفسه في مقابلته مع قناة سكاي نيوز عربية، بُثّت يوم 9 أغسطس/ آب، فهذا الوعي ذاته أكّد وحدة السوريين في مطالبهم السياسية قبل المعيشية، ولكل السوريين، قبل أن تخصّ المتظاهرين أنفسهم، ما يعني أن الثورة بشكلها السلمي هي تجديد لمطالب الثورة في 2011، وهي عودة إلى سيرتها الأولية، أو إحياء لما اعتقده النظام، أو حتى منصّات المعارضة، أنهم اقتصروه بلجنة دستورية لم ولن تقدّم شيئاً، ما لم تعتمد كامل ما ورد في القرار 2254، من إطلاق سراح المعتقلين وصولاً إلى حكم انتقالي يؤسّس لدولة ديمقراطية غير طائفية. فالتظاهرات التي عمّت السويداء وبعض المدن سياسية، وليست فقط مطلبية، تدلّ عليها شعاراتها، وهي موجّهة ليس فقط ضد فسادي النظام والمعارضة ممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. قد يكون محرّكها الاقتصاد وظروف العيش البائسة، وهذا ليس عيباً فيها، ولكنه دليل فشل النظام السياسي في مهمّته. ولذلك اتّخذ الطرفان بضع قرارات “ترقيعية”، لن تحبط الحراك، ما يستدعي اليوم إعادة بناء المنظومة المعارضة للنظام وفق أسس وطنية جامعة، تؤهّلها لمقارعة النظام على طاولة المفاوضات، وفق القرارات الدولية التي دفع ثمنها كل السوريين دماً ودماراً وتهجيراً واعتقالات.

عمل النظام في 12 عاماً من حربه على الشعب السوري المعارض لسياساته على ترهيب المواطنين، وتحويل مدنهم إلى ركام من الدمار، ثمناً لأي تظاهرة ترفع شعار رحيله. وأغرق السوريين في حروبٍ متعدّدة المستويات من انفلات العناصر الإرهابية التي خرج بعض قيادات تنظيماتها من سجونه، إلى ردّ عدوان الجيش والأجهزة الأمنية إلى محاربة المليشيات الطائفية التي استجلبها من كل حدب وصوب، وأسكت بسلاحه بعض المناطق وخسر مناطق مقابلة لها. وعليه، تقع مسؤولية انقسام سورية إلى أربع سوريات، متنازع عليها بين جيش النظام المدعوم روسياً وإيرانياً والفصائل المعارضة تحت الحماية التركية، والإدارة الذاتية تحت الحماية الأميركية، وحكومة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) المصنفة منظمّة إرهابية.

وعلى الرغم من تمكّنه بمساعدة روسيا وإيران من استعادة مناطق كثيرة خرجت عن سيطرته، فإنّ الحراك الشعبي في تلك المناطق كان ولا يزال يعبّر عن مطالبه المحقّة، أي أن انحسار الثورة السورية “المزعوم”، وضمور كياناتها السياسية والعسكرية أو إخفاقاتها، لأسباب ذاتية وموضوعية، لا يعني أفول شرعية الثورة على النظام الحاكم، المستمدّة من الواقع الظالم، بين نظام تأسّس على الفساد والاستبداد والشعب أو أغلبيته التي تتوسّع عدداً وجغرافية، بسبب سياسات القمع التي يحكم بها البلاد، والتي استمرّت عقدا و”نيف”، بهدم إمكانات العيش لدى المواطنين، وتشكيل ما سميت طبقة أثرياء الحرب تحت عباءة أمن الرئيس وأفراد أسرته.

إذاً، نحن إزاء مسار مستمرّ ومتصاعد من الاغتراب بين نظام منفصم عن الواقع وعن شعبه وعن العالم، وأغلبية السوريين المقهورين والمستلبين، في الداخل والخارج، الذين دفعوا وما زالوا ثمناً باهظاً لبقاء هذا النظام.

الحلّ الذي استخدمه النظام السوري للهروب إلى الأمام من انتفاضة أهل السويداء كان “الإرهاب مقابل الحراك” وهي المحافظة التي واجهت تحدّيات على مستويات متعدّدة عقاباً لها على انضمامها للثورة السورية، في وقتٍ مبكّر من انطلاقتها عام 2011، حيث سمحت الأجهزة الأمنية بتسلل عناصر تنظيم داعش الإرهابي إليها، ليكونوا هم أداة ترهيبٍ للمواطنين الذين واجهوا، أيضاً، مجموعات محلية منظمّة من جهاتٍ أمنية مارست الوظيفة القمعية نفسها في تكميم أفواه المواطنين، إلى جانب انفلات عناصر الأمن وممارسة “تشبيحهم” على أهالي المنطقة، كما كل الأراضي السورية (وهذا ما يمكن أن يعود إليه النظام مجدّداً، وما يستدعي الحذر منه)، أي أنه استخدم ويستخدم كل أدوات الترهيب غير المباشرة، ليبقي على مقولة إنه “حامي الأقليات في سورية”، معتبراً أن أهل الكرامة (الدروز) أقلية، فقد فات هذا النظام فهم أن السويداء بأهلها، حسب إدراك الشعب السوري جميعه، تمثل كل الأكثريّات الوطنية السورية، في الماضي والحاضر والمستقبل.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا