مجدداً.. الاقتصاد و”قابلية الثورة” في سوريا

بمناسبة جدل التوصيفات الدائر في أوساط بعض النشطاء السوريين، بين “ثورة كرامة” في العام 2011، وإرهاصات “ثورة جوع” في سوريا، هذه الأيام، قد يكون من المفيد العودة إلى مرجع بحثي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عام 2012، من إعداد الباحث السوري الشهير، محمد جمال باروت، والذي حمل عنوان: “العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح”.

ومكمن الفائدة بالعودة إلى هذا المرجع، لا ينحصر بتفنيد مقومات جدل التوصيفات المشار إليه، فقط. بل يفيدنا أيضاً بترصد عوامل التشابه الجليّة في المقومات الاقتصادية لـ “قابلية الثورة” في سوريا، في الحالتين، قبل الـ 2011، واليوم. وكأن التاريخ يكرر نفسه، بحذافيره.

ويتناول باروت في مؤلفه الأسباب العميقة لانتشار ثورة الـ 2011، بدايةً في المدن (الطرفية) – (درعا ودوما بريف دمشق، كأمثلة)، والتي عانت قبل ذاك العام، من محدودية تساقط آثار النمو الاقتصادي عليها، وتدني مؤشرات تنميتها الإنسانية وانتشار البطالة والفقر وارتفاع أعباء الإعالة فيها. كما كان توسع احتجاجات الـ 2011 سريعاً إلى المناطق الشرقية والشمالية (الرقة، دير الزور، الحسكة، ريف حلب الشرقي). والتي كانت تعاني من نفس المشكلات الاقتصادية والتنموية. وقد كان ذلك، وفق باروت، سرّ عدم امتداد الاحتجاجات على نطاق واسع، إلى المدن (المليونية) –(دمشق وحلب)، التي حصدت ثمار النمو الاقتصادي في العقدية الأولى من القرن الحالي، فيما حصدت المدن (المئة ألفية) والصغيرة، أشواك هذا النمو.

وفي ما سبق إشارة لا يحبذّها الكثيرون، إلى الأسباب الاقتصادية العميقة لثورة العام 2011، وسرّ انتشارها المناطقي. فيما نقاط أخرى، تناولها الباحث السوري في مؤلفه، تشعرنا وكأننا نعيش مقدمات الـ 2011، ذاتها. فقد توسع جمال باروت في استعراض دور رجال الأعمال الجدد (المئة الكبار)، قبل الـ 2011، والذين كيّفوا السياسات الاقتصادية للدولة، تبعاً لمصالحهم، بصورة دفعت سوريا نحو حالة “مكسكة” –على طريقة المكسيك في قيادة تحرير التجارة-، فكانت النتيجة أليمة على البرجوازية المتوسطة والصغيرة، التي أفلست في عدد كبير من المناطق السورية، ومن أبرزها، ريف دمشق، والتي كانت خزاناً نوعياً للحراك الاحتجاجي في الـ 2011.

ويوضح باروت كيف أن الحكومة أصبحت تحمي (احتكار القلة). فـ (المئة الكبار)، الذين كان رامي مخلوف، ابن خال رأس النظام، هو ناظمهم، شاركوا “الدولة”، وفق شروطهم ومصالحهم، ونشطوا في سوق مشوهة، تحمي احتكاراتهم. وهي قصة تتكرر اليوم، بصورة أكثر دراماتيكية، بعد إعادة هيكلة رجال الأعمال الجدد، (أمراء الحرب وأثرياؤها)، والذين تقودهم هذه المرة، أسماء الأسد، زوجة رأس النظام. فيما تعمل الحكومة وفق متطلبات مصالحهم. وهو واقع أصبح الحديث عنه علنياً، من جانب المتضررين من التجار والصناعيين، الذين باتوا يتحدثون وعبر وسائل الإعلام الموالية، عن الاحتكار، وعن القلة المحظوظة من المستوردين والتجار.

ويلفت باروت في مؤلفه إلى أثر سياسات رفع الدعم ورفع أسعار المشتقات النفطية، التي اعتمدها النظام في السنوات الأخيرة قبيل العام 2011، في توجيه ضربة قاسمة للقطاع الزراعي، وتعزيز حالة عدم العدالة في توزيع الثروة بين الريف والمدينة. ويرصد باروت، في العام 2009، جملة مؤشرات، من أبرزها، تراجع الصادرات، وتراجع الإنتاج النفطي، وتراجع حجم الحوالات من المغتربين في الخارج (لأسباب مرتبطة بالأزمة المالية الدولية حينها)، وأزمة الغذاء العالمي، وارتفاع أسعار الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة حينها، ناهيك عن آثار جفاف قاسٍ عانت منه سوريا بين عامي 2006 و2009. تلك التطورات عززت التضخم، بالتزامن مع إجراءات رفع الدعم ورفع أسعار حوامل الطاقة. مما عزز من حالة الانهيار المعيشي في المدن (الطرفية)، و(المئة ألفية) والصغيرة. خاصة في جنوب البلاد، وشرقها.

لذلك، يمكن أن نذكر أنه من أصل 13 نقطة تم الاتفاق عليها بين اللواء هشام بختيار (عضو اللجنة الأمنية المركزية)، وبين وجهاء درعا، بعيد الاحتجاجات الأولى في 2011، كان خفض أسعار المحروقات.

واليوم تتكرر المؤشرات والمقدمات ذاتها. رفع للدعم، ورفع لأسعار المشتقات النفطية. تراجع لحوالات المغتربين لأسباب مرتبطة بأزمات التضخم العالمي. رجال أعمال جدد تقودهم شخصية مقرّبة من رأس النظام، يسيطرون على ما بقي من اقتصاد متهالك. احتكار، وسوق مشوهة، وإفلاس لصناعيين. لكن قد يكون الفارق في الكم، لا في النوع. فهذه المقدمات تتكرر اليوم، بصورة أشد قساوة بكثير مما كانت عليه قبل الـ 2011.

وكما قال باروت في مؤلفه الصادر قبل أكثر من عقدٍ من الزمان، فإن الفقر والتهميش و”الطرفية” وحدها، لا تكفي لتفسير ما حدث من حركات احتجاجية (عام 2011)، لكن يستحيل تفسير ما حدث بمعزل عنها. ينطبق ذلك على ما يحدث اليوم أيضاً. لكن الفارق، أن الأسباب الاقتصادية، باتت دوافع مباشرة، وليست عميقة. ذلك لأنها أصبحت أشد قساوة، كما أشرنا.

هل يعني ما سبق أننا أمام ثورة جديدة في سوريا؟ قد يكون الجواب الأمثل هو المستمد أيضاً، مما كتبه محمد جمال باروت في مؤلفه. فالثورات لا تحدث وفق وصفات، بل تُنتج كل ثورة سيرورتها ومنطقها، ويؤدي المفاجئ أو العشوائي دوراً أكثر بروزاً وأهمية من السببي، وما يلبث أن يورط الآخرين فيه. هذا التورط هو ما يجعل “قابلية الثورة”، تتحول إلى ثورة.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا