مساعدات بوتين المفخخة

تدور هذه الأيام رحى حرب إعلامية ضروس بين روسيا والغرب ، على خلفية المساعدات ، التي قدمتها روسيا لإيطاليا، والتشكيك الغربي بأهداف هذه المساعدات وقيمتها العملية . وأشد ما استفز الروس ، هي تلك المقالة ، التي ظهرت في صحيفة “La Stampa” الإيطالية ، بعد ايام من وصول المساعدات الروسية ، ونقلتها نوفوستي إلى الروسية. وسارع السفير الروسي في إيطاليا ، إلى توجيه رسالة إلى رئيس تحرير الصحيفة ، أعرب فيها عن احتجاجه على ما ورد في المقالة من ذم وتشكيك بالمساعدات الروسية ، “بدلاً من التعبير عن الإمتنان لتقديم هذه المساعدات” . 

الصحيفة ، التي نشرت احتجاج السفير، بالطبع ، كانت قد نشرت مقالة تحت عنوان مطول “العسكريون الروس يقيمون في مقر للجيش الإيطالي ، يتم تداول مخاوف من “إحتلال” روسي لإيطاليا” ، قالت في مقدمتها ، بأن خبراء الحرب الجرثومية ، الذين أرسلهم بوتين بإذن من رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبه كونتي ، يدرسون خريطة إيطاليا . وأكدت بأن ثمة قناعة أخذت تنتشر في الأوساط العسكرية والسياسية ، وفي الإدارة والحكومة الإيطالية ، بأن روسيا ، وهي تقدم المساعدة لإيطاليا في هذه الظروف الإستثنائية الناشئة عن وباء الكورونا ، لا تسترشد فقط بطيبة شعبها المتناهية ، وبالصداقة التقليدية بين البلدين . وبعد أن تشير الصحيفة إلى مخاوف كبار مسؤولي الحكومة والأركان العامة الإيطالية من الثمن الجيوسياسي لهذه المساعدة ، تقول بأنه سوف يتعين على  رئيس الوزراء جوزيبه كونتي أن يدفع لبوتين ثمن السماح للعسكريين الروس بدخول الأراضي الإيطالية . وتشير إلى أنها اطلعت على مواقع تمركز هؤلاء العسكريين ومحتوى المساعدات ، التي حملوها على طائراتهم ، ليس من السلطات الإيطالية ، بل من الروس أنفسهم .

وتنقل الصحيفة عن جنرال إيطالي متقاعد قوله ، بأن المساعدة لا تُرفض ، لكن ينبغي البقاء على حذر شديد ، لأن البحر الأبيض المتوسط ، بشرقه ووسطه ، هو منطقة صراع على النفوذ في سوريا وفي ليبيا . ولذا ، ينبغي تفادي الوضع ، الذي تتحول فيه الأزمة الصحية ، إلى أزمة ذات طابع عسكري سياسي، ولذلك ، فالمساعدة أمر جيد ، إنما ينبغي أن توضع لها حدود معينة .

وبعد أن تتساءل الصحيفة ما إذا كانت إيطاليا ستتحول إلى جبهة إيطالية روسية مختلطة للبحث في شؤون الحرب الجرثومية ، تتذكر عملية دخول القوات الروسية إلى أفغانستان العام ، 1979 ومصير الرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين على يد هذه القوات . وكانت قد أرفقت مقالتها هذه بمقالة أخرى في اليوم عينه بعنوان “الإتصال الهاتفي بين كونتي وبوتين بشأن فيروس الكورونا أثار قلق الحكومة : “بدل المساعدات وصل عسكريون روس” ، قالت فيها بأن البعض يقول بأن  80″% من المساعدات الروسية لا فائدة منها البتة، أو قليلة الفائدة ، وهي ليست سوى حجة لا أكثر .

الرسالة الإحتجاجية للسفير الروسي إلى رئيس تحرير الصحيفة ، تولى الرد عليها كاتب المقالة نفسه ، وفند النقاط التى أبدى السفير اعتراضه عليها ، ولا سيما التذكير بدخول القوات السوفياتية إلى افغانستان ، والقول بلا فائدة معظم المساعدات ، وأنهى رده بالتأكيد ، بأنهم في إيطاليا وفي الصحيفة نفسها ، لا يسمحون بالإشارة إليهم “بما كان يجدر بنا أن نفعله ، أو لا نفعله”.

التشكيك بالنوايا الروسية ، التي تقف وراء إرسال المساعدات إلى إيطاليا ، واتهامها باستغلال كارثة وباء الكورونا للعمل على تفكيك الإتحاد الأوروبي من الداخل ، لم تقتصر على الصحيفة الإيطالية المذكورة، بل نقلت نوفوستي نفسها عن صحف ومواقع من مختلف البلدان الأوروبية ، تتفق جميعها مع تقويم الصحيفة الإيطالية لمبادرة بوتين.

من جهته ، لم يقتصر الكرملين في رده على الإعلام الغربي برسالة سفيره في روما ، بل جند كل إعلامه للإنخراط في هذه الحملة. ودأبت شاشات التلفزة الموالية على بث الصور وأشرطة الفيديو لرتل السيارات العسكرية الروسية، وسط موسيقى النشيد الوطني الروسي، التي تقول بأنها تعبير من الإيطاليين عن ترحيبهم بالأطباء العسكريين الروس.

لكن معارضي بوتين الليبراليين لم يشاركوا ، بالطبع ، في مهرجان بروباغندا الكرملين هذا ، بل هم يشاركون كلياً استنتاجات الإعلام الغربي وتقويمه لأهداف ومهمات المساعدة الروسية تلك . كما أن معارضي الكرملين من القوميين الروس و”المعارضة من داخل النظام” ، لم يشاركوا الكرملين مهرجانه هذا ، بل وسخروا منه أيضاً . ولعل ما نشرته صحيفة القوميين هؤلاء مساء الثلاثاء في 31 من الشهر المنصرم قد عبر أفضل تعبير عن موقفهم هذا ، إذ نشرت صحيفتهم “SP” مقالة بعنوان شديد السخرية “”جميل جداً” : بوتين ينقذ الولايات المتحدة من فيروس كورونا” ، وقالت بأن روسيا ترسل إلى أميركا طائرة مساعدات طبية . وأشارت إلى أن الكرملين سبق له أن لبى طلب رئيس الوزراء الإيطالي وارسل له 15 طائرة من الإختصاصيين والأجهزة الطبية ، وتحاول روسيا في هذه الأثناء تفادي انتشار الوباء على أراضيها ، “دون نجاح كبير” . فقد فرضت السلطة الحجر الصحي على البلاد ، ولم تتمكن من توفير وسائل الحماية البسيطة للناس ، مثل الكمامات الطبية ، والقفازات ، والمطهرات ، وسواها.

وتنقل الصحيفة عن مبعوثها الخاص إلى إحدى المناطق الروسية للبحث عن وسائل الحماية المذكورة ، لكنه يعود من هناك بنتائج سلبية لمعظم تلك الوسائل ، وينقل عن الناس استنتاجهم ، بأنه طالما أن وسائط الحماية مفقودة “فنحن سوف نصاب بالوباء” . وتعلق الصحيفة على ذلك بالقول “لكننا نرسل الطائرات الطبية إلى أميركا ! ليس نحن ، بل الكرملين هو الذي يرسلها ، ولأسباب لا يعرفها سواه ” . وتتساءل “لماذا هذه الإلتفاتات؟” ، وتقول بأن بوتين يعتقد أن أميركا سوف تقدر ذلك ، “لكن هيهات أن تفعل، أما مواطنونا فهذا سوف يثير غضبهم بالتأكيد” .

وكانت الصحيفة عينها ، قد نشرت قبل يوم من ذلك ، مقالة بدت فيها وكأنها ترد على ما سبق لصحيفة الكرملين “VZ” أن نشرته قبل أيام ، وقالت فيه بأن  فيروس الكورونا سوف يجبر الغرب على التخلي عن كراهية روسيا . فكتبت مقالة بعنوان “فيروس الكورونا لن يجبر الغرب على حب الروس” ، وقالت بأن الساسة الغربيين يتهمون موسكو باستغلال الوباء لصالحها . ونقلت عن الناطق باسم منسق أجهزة المخابرات البولونية قوله ، بأنه على قناعة ، بأنه مع اشتداد انتشار فيروس الكورونا في العالم ، سوف تنتقل روسيا إلى الهجوم السياسي . وقال السياسي البولوني ، بأن روسيا تصور نفسها على الساحة الدولية بأنها البلد ، الذي لا يستطيع فقط التعامل مع الوباء ، بل وبوسعه أيضاً مد يد العون للآخرين ، وتلمح روسيا، إلى أنه كان بوسعها تقديم أكثر في ما لو رُفعت عنها العقوبات الغربية .

لكن النص ، الذي نشره موقع “بوتين اليوم” الرسمي منذ يومين ، قد يكون الأكثر وضوحاً بين النصوص الكثيرة ، التي نشرها إعلام الكرملين ، للرد على الإعلام الغربي ، والدفاع عن مساعدات بوتين للغرب . فقد جاء النص تحت عنوان “الروس ينقذون العالم من جديد” ، ونسب القول إلى الميديا الإسبانية أن وباء فيروس الكورونا في بلدان الإتحاد الأوروبي ، قد بيّن أن البلد الذي يصطدم بمشكلة ، لا يمد له جيرانه يد العون، بل يقومون بكل ما من شأنه زيادة وضعه سؤاً، وبالتالي، ما على البلد المعني سوى الخروج من الإتحاد الأوروبي، وطلب المساعدة من الكرملين، حتى لو كانت هذه المساعدة مفخخة بنوايا الكرملين المضمرة حيال مصير هذا الإتحاد .

المصدر المُدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا