موقع سورية من النزعات الاستعمارية الجديدة

يذكّر الدور الذي تقوم به روسيا اليوم في سورية، إلى حد كبير، بدور فرنسا التي كلّفت نفسها بالانتداب على سورية بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك بموجب اتفاقية سايكس – بيكو 1916، والاتفاقيات الفرعية التي كانت بعد الحرب. ويأتي الدور الروسي هذا بالموازاة والتنسيق مع الدور الأميركي الذي يتقاطع، في أوجه كثيرة، مع الدور البريطاني الذي كان في العراق أيام الانتداب؛ هذا مع شيءٍ من التباين هنا وهناك بطبيعة الحال، وذلك نتيجة تبدّل الظروف والمعطيات والمعادلات منذ ذلك التاريخ. ومن أبرز تلك التباينات: التركيز الأميركي على منطقة شرقي الفرات، لتكون ورقة من أوراق الضغط والتأثير في الملفين السوري والعراقي، في الوقت ذاته، وعدم ترك الساحة خاليةً أمام الروس الذين يبدو أنهم اعتقدوا أن التفاهم مع الأميركان والإسرائيليين سيمكنهم من تحقيق نقاط أفضل وأسرع في سورية، مقارنة بما قد حققوه، فالفرنسيون كانوا يركّزون، في مشروعهم الاستعماري في كل من سورية ولبنان، على الأقليات الدينية، والمسيحية منها تحديداً. بينما كان الإنكليز يركّزون على العرب السنة والكرد في العراق، وكانت لكل طرف (الفرنسيين والإنكليز) أسبابه وحساباته التي كانت تأخذ بالاعتبار العوامل الداخلية والتطلعات التوسعية.

وفي ما يتعلق بالفرنسيين، كان الوجود في شرقي المتوسط ركيزة أساسية من ركائز سياستهم الأوروبية، واستراتيجيتهم في حوض المتوسط بصورة عامة. في حين أن الإنكليز كانوا يريدون، بشتى السبل، حماية الطرق المؤدية إلى الهند، وتجريد الإمبراطورية العثمانية من نقطة قوتها الروحية، فقد كان في مقدور الأخيرة تعبئة المسلمين، عبر إعلان الجهاد ضد الإنكليز ومصالحهم في المنطقة، بل وفي شبه الجزيرة الهندية نفسها التي كانت تعد تاج الإمبراطورية البريطانية. ولعل هذا ما يفسّر الحرص البريطاني على إبراز دور الشريف حسين بن علي، زعيم مكة العربي، المسلم السني، ليكون قائداً لثورة عربية كبرى على الخلافة العثمانية، وهي الإمبراطورية التي كان تعتبر، في ذلك الحين، الممثل السياسي للمسلمين السنة على المستوى العالمي.
تركّز روسيا اليوم على المسيحيين من جميع الطوائف، والأرثوذكس منهم على وجه التحديد، انسجاما مع توجهات سياساتها الداخلية التي شاهدنا جانباً من تطبيقاتها في مباركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية دخول الجيش الروسي المعركة على الشعب السوري إلى جانب نظام بشار، نظام الاستبداد والفساد والإفساد خريف عام 2015. وتحاول روسيا وتعمل، في الوقت ذاته، على مد الجسور مع العلويين والكرد والدروز، والعرب السنة في المناطق التي قيل عنها في يوم ما: سورية المفيدة، وفي مقدمتها دمشق. ويبدو أن هناك شيئا من التوافق بينها وبين أميركا حول ميادين التحرّك وأساليبه. ولكن روسيا ليست وحدها في المساحة التي تتطلع إليها، لتكون منطقة نفوذ خاضعة لسلطانها، فهناك إيران التي تزاحمها في عملية السعي من أجل امتلاك ورقة العلويين؛ وكما هو معلوم، هناك أميركا التي تنافسها على ورقة الكرد، فإذا كانت روسيا تستند إلى تراكمات عقودٍ من العلاقات العسكرية والتجارية مع سورية، وتحاول استمالة الأوساط الليبرالية العلمانية ضمن المجتمع العلوي، فإن إيران ماضيةٌ في مشروعها المذهبي الذي يستمد قوته، هو الآخر، من عقود من التغلغل الثقافي والتبشيري، وشراء العقارات، واكتساب الجنسية، وقد استفادت، في هذا المجال، كثيراً من التسهيلات التي منحها إياها حافظ الأسد. واستمرت تلك التسهيلات، بل اتسعت وترسخت في عهد بشار، حتى بات التحكّم الإيراني بمفاصل قرار النظام جزءاً من المألوف اليومي في الواقع السوري.
إلى جانب ذلك، يلاحظ أن روسيا ليست مطلقة الصلاحية على مستوى سورية ككل، وذلك على عكس فرنسا في عهد الانتداب، فإلى جانب إيران هناك تركيا والولايات المتحدة الأميركية، كما أن لإسرائيل شروطها وطلباتها؛ لذلك عليها أن تأخذ كل التوازنات بعين الاعتبار، إذا أرادت الاستمرار في استخدام سورية قاعدة لها في المتوسط، وهو الذي تمحور حوله الحلم الروسي في مختلف العهود.

وفي المقابل، تعاني الولايات المتحدة، هي الأخرى، من وجود منافس شرس لها في العراق، على خلاف ما كان عليه الحال بالنسبة إلى البريطانيين، فإيران تتحكّم بوسط العراق وجنوبه، وهناك تحكّم إيراني سافر بمفاصل الدولة والمجتمع العراقيين. وفي الشمال، وإقليم كردستان تحديداً، تحاول تركيا، من حين إلى آخر، استغلال ورقة حزب العمال الكردستاني بهدف تثبيت مزيد من نقاط الارتكاز، لتكون أوراقاً تفاوضية، وأدوات ضغط، تستخدم عند اللزوم مع الأميركان ومع إقليم كردستان العراق. كما وتستخدم للحفاظ على المعادلة التوازنية مع القوى الإقليمة، ولا سيما إيران.
والأمر ذاته في سورية، فالولايات المتحدة على الرغم من اتفاقها مع الروس على تقاسم مناطق النفوذ والمهمات، فإنها حريصة على أخذ هواجس (ومصالح) حليفتها اللدودة، تركيا، بالاعتبار، ضمن إطار سعي واضح المعالم إلى عرقلة مساعي الروس الرامية إلى الهيمنة الكاملة على الغرب السوري، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
ولكن مهما يكن، تظل الورقة السورية، في نهاية المطاف، من بين جملة أوراق إقليمة ودولية، يستخدمها الروس والأميركان في مواجهة بعضهم بعضاً، عبر الوكلاء في مناطق عديدة. مواجهة قد تدخلها الصين إلى جانب الروس؛ هذا ما لم يتم التوصل إلى توافقات أميركية – صينية جديدة، تراعي واقع المتغيرات والتطورات منذ الاتفاق الأميركي – الصيني الشهير الذي هندسه هنري كيسنجر بالتعاون مع شوان لاي في أوائل سبعينيات القرن المنصرم.
وما يُستنتج من مجموعة التحركات والتصريحات والتكتيكات الأميركية أن الوضع السوري قد بات أميركياً مرتبطاً بصورة عضوية مع الوضع العراقي، خصوصا في منطقة شرقي الفرات. وليس مستبعدا أن تستخدم هذه المنطقة مستقبلاً لترتيب أوضاع معينة في العراق بين الكرد والعرب السنة، في حال إخفاق الجهود المبذولة حالياً من أجل إخراج الدولة العراقية من دائرة الهيمنة الإيرانية؛ وهي الهيمنة التي باتت مكشوفة مفضوحة على مختلف المستويات العسكرية والسياسية والأمنية، وحتى على صعيد المرجعيات الروحية.

هل تتجه المنطقة نحو عملية إعادة تركيب جديدة بتوافق روسي – أميركي، مع أخذ موضوع التوازنات الإقليمية في الحسبان؟ أم أن ما يجري هو مجرّد واحدٍ من أوجه صراع بارد بين الطرفين، لا ينفصل عما هو بينهما على المستوى الدولي؟ ولكن في الحالتين، لا بد من السؤال عن موقع السوريين وموقفهم مما يجري في بلادهم، وما سيؤثر حكماً على مصيرهم ومصير أجيالهم المقبلة. وضمن هذا السياق، يُلاحظ أن الناس في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وحلفائه يتوزعون بين توجهين. يراهن أولهما على الروس، من باب أن اهتمام هؤلاء بسورية لا يتجاوز إطار المصلحة الاستراتيجية العسكرية. في حين أن الاتجاه الثاني، خصوصا في دائرة النظام، يرون في الإيرانيين الضمانة التي تمكّنهم من الاستمرارية، وتبعدهم عن مخاطر صفقة روسية، أميركية، إسرائيلية، تطيح الإيرانيين وأتباعهم في سورية. أما في الشمال الغربي، فالمراهنة هي على تركيا بصورة أساسية، إلى درجة أن الناس، إذا خيروا بين النفوذ التركي والعودة إلى حظيرة حكم بشار، سيكون الخيار التركي هو الأرجح.
هذا في حين أن المراهنة في المنطقة الشرقية هي على الموقف الأميركي، مع شكوك مشروعة توصل إليها الناس بناء على التجارب المتكرّرة في الماضي، سواء القريب أم البعيد. وما يضفي مزيدا من القتامة على الوضع هو ما تعانيه المعارضة من انقساماتٍ عبثية، وتحرّكات شللية أو فردية في مختلف الاتجاهات. تحرّكات يعتقد أصحابها أن في مقدورهم الحصول على عقد توكيل من هذه الجهة أو تلك، من دون أن يأخذوا بالاعتبار أهمية التوكيل الوطني الذي يظل الأضمن والأفضل لكل السوريين. والتوكيل الوطني المطلوب يستوجب مشروعاً سورياً وطنياً متكاملاً، مشروع يطمئن جميع السوريين، من دون أي تمييز أو استثناء، على قاعدة الاعتراف بالخصوصيات والحقوق، وتوفيرالمقدمات الفعلية للتشارك في الإدارة والثروات. ولكن ذلك كله لن يتحوّل إلى واقع فعلي قائم من دون قوى سياسية مجتمعية سورية حقيقية، موجودة على الأرض، لا قوى تطرح نفسها في العالم الافتراضي، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، بأسمائها المختلفة.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا