إيران وفصائلها… الاستعداد لما ما بعد غزّة

تستطيع إيران منذ عقود إقفال “حاناتها” الضاربة في المنطقة والتوقف عن ممارسة العبث في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول أخرى. تستطيع إيران، بما تملكه من موقع جيوستراتيجي وعمق ديموغرافي وثروات واعدة، أن تمارس أصول الحكم والعلاقات الدولية بما يؤمّن للبلد بحبوحة وازدهاراً وثراءً. لكن طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية ارتأت عقائدياً أن قواعد بقاء نظامها تقوم على ثابت استمرار الصراع. ووفق هذه المعادلة، يمكن تحليل وتفسير استراتيجيات البلد وتكتيكاته وتأويلها.

وتوفّر ظروف الحرب في غزّة المشتعلة منذ شهرين عدّة شغل لإيران في سياق استخدام أوراقها لخدمة أجنداتها الإقليمية والدولية. وإذا ما تتحرّك أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن للإدلاء بدلوها على هامش الحرب، فإن المراقب لتلك الحركة يلاحظ مدى التزامها مستوى الإيقاع الذي اختارته طهران وعدم تجاوزها مقاييس ومعايير تكون جاذبة أو مسببة لحرب كبرى.

وقد استشعرت إيران في يوم “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي خطورة ما تجاوزته “كتائب القسام” من خطوط حمر قد توفّر شروط حرب كبرى ضد إيران. ولأنها شديدة الخبرة منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 بالممكن والمستحيل وبالمسموح به والمحرّم، فإن النظام الإيراني تهيّب الموقف وراح من خلال كل منابره ومؤسساته يكثر من التصريحات والمواقف التي تركّز على النأي بالنفس عن أي تورط مباشر في الهجوم القسامي في ذلك اليوم.

وإذا ما سارع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى تأكيد أن لا علاقة لإيران بأمر يقرره الفصيل الفلسطيني الإسلامي بشكل مستقل، فإنه جال بعد أيام من الحدث الغزي على العراق وسوريا لينتهي بالإعلان في 13 تشرين الأول من لبنان حيث ينشط “حزب الله”، وهو الذراع الضاربة الأهم، عن “أهمية أمن لبنان والحفاظ على الهدوء فيه” بما أوحى بسقف عمليات الحزب على الحدود مع إسرائيل التي تتيح مناورة على حدود الهاوية.

وما ساقه الوزير الإيراني حظي بمباركة المرشد علي خامنئي حين أكثر من تأييد المقاومة في غزة، لكنه تقصّد في المقابل التأكيد أن أمر غزة هو أمر فلسطيني بامتياز. وكان أعلن في 10 تشرين الأول أي بعد 3 أيام على عملية “الطوفان” أن “أولئك الذين يعتقدون أن هجمات حماس هي من عمل غير الفلسطينيين، أخطأوا في حساباتهم”. ومع ذلك وبعيداً من هذه المواقف وحتى لا نضيع في التفسير، فإن إيران التي تعمل وفق عقيدة استمرار الصراع، لم تعمل على الانسحاب من حدث الصراع الغزي بل التحكّم به والإمساك بمستويات ردّ الفعل بما يسوّق أوراقاً إلى الحصاد الإيراني ويدفع عنها شرور حرب مباشرة.

وإذا ما تأملنا مستوى الردّ الذي انتهجه “حزب الله” في جنوب لبنان وأداء الفصائل الولائية في العراق ضد أهداف أميركية وحراك جماعة الحوثي، لا سيما داخل الممرات المائية، نستنتج كمّ الرسائل التي تطلقها إيران إلى من يهمه الأمر بصفتها شريكاً في يوميات الحرب في القطاع وراهنها ومستقبلها ومآلاتها.

وكانت وكالة “رويترز” قد نقلت عن 3 مسؤولين إيرانيين في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي رواية نفتها حركة “حماس” بأن خامنئي قال لإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة حين التقاه في طهران: “لم تعطونا أي تحذير بشأن الهجوم على إسرائيل، لذلك لن نخوض الحرب نيابة عنكم”. لكن المرشد يذهب أكثر من ذلك في 29 من الشهر نفسه وفي عزّ حرب غزة ليتذكّر أن “إيران لم تقل يوماً إنها تريد رمي اليهود والصهاينة في البحر”.

وقد تبنّت طهران هذه المرة نظرية جديدة تنكر فيها ارتباط جماعاتها العضوي بالقرار في طهران. كرر الخطاب الإيراني “ابتكاراً” أبجدياً يؤكد أن فصائل “محور المقاومة” تقرر وحدها شكل ردّ الفعل عما يجري في غزة وتوقيته. وذهبت صحيفة “جوان” التابعة للحرس الثوري الإيراني، إلى أبعد من ذلك حين قالت في 8 تشرين الثاني الماضي إن “إيران لا تملك جماعات إقليمية مسلحة تعمل بالنيابة عنها”. ولئن تدلي طهران بهذه المعادلة غير المقُنعة، فإنها تدرك جيداً أن العواصم المعنيّة، وأهمها واشنطن، تعرف هراء هذا الزعم وتدرك قدرة إيران على تفعيل تمدد الحرب ومنعها ليندرج ذلك الإدراك في حسابات الأرباح والخسائر على موائد التسويات.

والواقع أن المنظومة الغربية تلاقي إيران في معادلتها الجديدة. فبعد ساعات من شيوع أنباء هجوم “طوفان الأقصى”، ورداً على اتهامات إسرائيلية – غربية بضلوع إيران وحرسها الثوري بالهجوم، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 8 تشرين الأول في مقابلة مع CNN، ومن دون انتظار نتائج أي تحقيقات: “لم نرصد بعد دليلاً على أن إيران أمرت بتنفيذ هذا الهجوم، أي لا علاقة لها به”.

والواضح أن واشنطن سارعت إلى تبرئة طهران اتّساقاً مع مسار استراتيجي تفاوضي اعتمدته إدارة الرئيس جو بايدن أدى في 10 آب (أغسطس) الماضي إلى إبرام اتفاق لتبادل السجناء. أفرجت واشنطن بموجب الاتفاق عن مبلغ 6 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية في كوريا الجنوبية. وقد سرت أنباء بعد “الطوفان” عن أن البيت الأبيض يدرس منح إعفاءات إلى العراق تتيح الإفراج عن 10 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية هناك.

وفي سياق ملاقاة الغرب مزاعم طهران باستقلال قرار الجماعات التابعة لها، وقبل أيام من إعلان واشنطن في 3 كانون الأول (ديسمبر) الجاري عن اعتقادها بأن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر مدعومة من إيران، صدر في 28 تشرين الثاني الماضي بيان عن وزراء خارجية مجموعة الدول السبع “يدعو” الحوثيين إلى التوقف عن تهديد الملاحة الدولية في المنطقة. وجاء توجّه المجموعة إلى الميليشيا اليمنية مباشراً وكأنها تخاطب جهة شرعية سيادية، علماً أن لليمن حكومة شرعية يعترف بها العالم وأن تلك الميليشيا تعتبر في القانون الدولي متمرّدة وكانت مُدرجة على لوائح الإرهاب، ناهيك بأن هذا البيان يقرّ تماماً بما تدّعيه إيران من استقلال قرار هذه الميليشيا عن صاحب القرار في طهران.

تعطي إيران دروساً في علوم “حافة الهاوية” وهي في ما تمارسه ميليشياتها التابعة توسّع من مفاعيل تلك العلوم في المنطقة. وإذا ما يتحرّك الحوثيون على حافة هذه الهاوية فذلك أنهم، وبالتحديد من خلال قيام إدارة بايدن برفعهم عن لائحة الإرهاب، لم يصادفوا من الولايات المتحدة والحلف الغربي أي هاوية تواجههم. في المقابل يتمسّك “حزب الله” في لبنان وفصائل العراق بتلك العلوم التي لا تشعل حرباً لكنها تبقي الواجهة والعنوان الإيرانيين مضاءين لمن يريد المراجعة.

يكفي تأمل تلك اللعبة في ما يطلقه الحوثيون من صواريخ لا تصيب أهدافها أو يسهل إسقاطها. ويكفي تأمل ما أعلنته القيادة المركزية الأميركية في 27 تشرين الثاني الماضي عن صاروخين باليستيين أطلقا من اليمن على سفينة “يو إس إس ميسون” الأميركية بعد وصولها لإنقاذ الناقلة المختطفة “سنترال بارك”. يقول البيان إن الصواريخ سقطت في خليج عدن على بعد 10 أميال بحرية من السفينة. وللعلم فإن تلك الأميال تساوي أكثر من 18 كلم، بما يعني أن الميليشيات لم تخطئ هدفها، بل إنها لم تستهدفه أبداً، حتى تبقى على حافة لا تسقط في أي هاوية.

المصدر النهار العربي


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا