الأسد ووزير أوقافه بعيون إيرانية

نشرت مجلة “المجلة” خلال هذا الأسبوع، في ثلاثة أجزاء، ترجمة لوثائق إيرانية رسمية سرّبتها مجموعة قراصنة من المعارضة الإيرانية. تتضمن الوثائق مسودات اتفاقيات بين الأسد وطهران، بما فيها مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي. وفيها أيضاً تقرير كانت قد أعدّته “الإدارة الثانية لشؤون غرب آسيا وشمال أفريقيا”، تمهيداً لزيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق التي كانت مقرَّرة في أواخر ديسمبر 2022، ثم أجريت في أيار 2023 قبيل ذهاب بشار الأسد إلى مؤتمر القمة العربية.

لا مفاجآت في موضوع الاتفاقيات بين طهران والأسد، ويمكن إجمالها في مسارين متكاملين، أولهما الاتفاقيات التي تهدف إلى تعزيز السيطرة الإيرانية على جميع القطاعات بلا استثناء، من أجل إحكام السيطرة على سوريا وعدم الاكتفاء برأس هرم السلطة. أما المسار الثاني فيهدف إلى استرداد الديون الإيرانية المتراكمة على الأسد، من خلال تملك “أو المشاركة في تملك” قطاعات ربحية، فضلاً عن الإمساك بهذه القطاعات كي لا يستثمرها الأسد في مغازلة شركاء آخرين محتملين.

التقرير المعدّ للرئيس الإيراني، تمهيداً للقائه بالأسد، هو الأهم لأنه يفصح عمّا لا تفصح عنه البيانات الختامية عادة، ويكشف عمّا يُقال في الكواليس، وهو الأصدق دائماً، والأصدق على نحو خاص في هذا النوع من الأنظمة والسلطات التي تتلطى خلف شعارات كاذبة أو بعيدة عن الواقع. في مثال على ذلك، تحضر تركيا على نحو غير مباشر في البيان الصحافي الذي أعقب اللقاء، مرةً بالمطالبة بانسحاب كافة القوات الأجنبية من سوريا، ومرةً ثانية بالتأكيد على استمرار مسار آستانة وهو كما هو معلوم بمشاركة رئيسية من أنقرة. أما في التقرير الإيراني التمهيدي للزيارة فنقرأ التالي:

تأمل حكومة الأسد في فوز الأحزاب المعارضة لأردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية، وتتصور أنها ستنجح في إبرام اتفاق واسع معها بسبب تقارب الهوية بينها وبين العلويين في تركيا. من جهة أخرى فإن لأحزاب المعارضة لأردوغان في تركيا وخاصة حزب الشعب الجمهوري بزعامة السيد كمال كليجدار أوغلو، تقارباً كبيراً مع الاستراتيجيات الأمريكية.

تُظهِر العبارة الأولى من الاقتباس السابق أن طهران تنظر إلى موقف الأسد من الانتخابات التركية، المقبلة آنذاك، بوصفه موقفاً طائفياً قائماً على تقارب الهوية بينه وبين العلويين “المعارضين لأردوغان” في تركيا. بينما تذكّر العبارة التالية برؤية طهران المختلفة للاستحقاق الانتخابي ذاته، إذ تشير إلى تقارب حزب الشعب الجمهوري مع الاستراتيجيات الأمريكية، وهو الحزب المعارض الرئيسي لأردوغان.

يُذكر أن معارضين سوريين، من الذين يُحسبون عادة كأصحاب توجّه طائفي، كانوا قد توقفوا عند العامل المذهبي في الانتخابات التركية وأثره على تقارب أنقرة المحتمل مع بشار الأسد، رغم أن التقارب كان مطروحاً بوجود أردوغان أيضاً! وكان من السهل ردّ تحليل أولئك المعارضين إلى نزوع طائفي، لكنّ مجيء التحليل نفسه من دوائر صنع القرار الإيرانية يكتسب جدية أكبر بكثير، وهو في الحد الأدنى يؤكد على استثمار المسألة الطائفية من قبل الأسد وطهران، بخلاف الاتهامات الطائفية التي يواظب أنصارهما على توجيهها للخصوم.

تلك لم تكن الإشارة الطائفية الوحيدة في التقرير الإيراني، فهو يخصص مساحة واسعة تحت هذا البند من المَحاور التي ستُناقش في زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق: “تقرير وضع الأمور الدينية والمذهبية والمحاور المقترحة للمفاوضات في اللقاء مع علماء الدين في سوريا”. ويرِد التالي ضمنه: إن السنّة (٩٧ بالمائة يعتنقون مذاهب الشافعي والحنفي) يشكلون الأكثرية في سوريا غير أن أتباع بقية المذاهب الإسلامية على غرار العلويين الشيعة والإسماعيليين والدروز والمرشدية الصوفية و.. يشاركون في المشهد الديني والاجتماعي في سوريا. إضافة إلى ذلك فإن الطوائف المسيحية المختلفة تشكل نحو ١٠ بالمئة من سكان سوريا حيث يتمركزون بشكل رئيس في شرق سوريا وحلب والمحافظات الساحلية ودمشق.

ثم، بعد التفصيل السابق في الخريطة الدينية والمذهبية السورية، يفصّل التقرير في إجراءات اتخذها الأسد على صعيد وزارة الأوقاف، منها إلغاء منصب المفتي و”إنشاء المجلس العلمي الفقهي”. ليتوقف التقرير عند وزير الأوقاف منذ 2007، وهو ابن وزير الأوقاف السابق عبدالستار السيد. ما يلفت الانتباه أن واضعي التقرير يشيرون إلى أن المذكور “يزعم بأن نسبه يرجع للسادات الحسيني، ولكن أجداده لم يرتدوا العمامة السوداء خوفا من العثمانيين الذين كانوا حكام الشام، وأن أجداده أخفوا نسبهم الذي يرجع للسادات الحسيني”. والإتيان بزعم الانتساب المذكور لا يرد على سبيل الاستنكار، فقد نال وزير الأوقاف مساحة معتبرة من التقرير، ستُتوَّج تحت عنوان “المحاور المقترحة في لقاء رئيس الجمهورية المحترم مع علماء الدين في سوريا” بهذه التوصية: التعبير عن الامتنان من الحضور الفاعل لعلماء الدين في سوريا، خاصة وزير الأوقاف السوري، في الشؤون الثقافية والدينية ونأمل بمزيد من التوفيق لاستمرار هذه الأنشطة.

نعود للتذكير بتاريخ التقرير الإيراني، فهو قد أُعِدّ لزيارة الرئيس الإيراني التي كانت مقرَّرة نهاية عام 2022. في ذلك التاريخ كان قد مضى سنوات على تفاهمات آستانة التي أفضت إلى إنهاء العمليات الحربية الكبرى وإرساء خطوط التماس الحالية، وهي مضبوطة برعاية ثلاثي آستانة. بعبارة أخرى، لا توجد أثناء إعداد التقرير معارك تتطلب تعبئة طائفية على النحو الذي كان مألوفاً عندما دخلت الميليشيات الإيرانية إلى سوريا تحت لافتة “لبّيك يا زينب”. وفي التاريخ نفسه كان قد انتهى ما سُمّي صراعاً سنّياً-شيعياً في المنطقة، والتقرير نفسه يثني على مواقف أبو ظبي ويشير إلى مفاوضات المصالحة والتطبيع التي كانت قد قطعت أشواطاً بين طهران والرياض.

تنضح الإشارات الواردة في التقرير بـ”العناية” الشديدة التي توليها طهران للمسألة الطائفية، وبأن هذه العناية بمثابة نهج مستدام. وأغلب الظن أننا هنا إزاء اهتمام منمّق جداً بما يليق بمقام الرئاسة، وهو ما لن يكون على هذا النحو في وثائق أخرى خاصة بالميليشيات التي قاتلت السوريين. ولا يغيب عن الصورة الكاملة أن الحضور الإيراني، محمَّلاً بالاستثمار الطائفي، لا يُقارن من حيث سعة انتشاره بالتواجد الروسي في مستويات عليا عسكرية أو مخابراتية وفي القواعد العسكرية المنعزلة، ما يجعل النهج الإيراني أقوى وأبعد تأثيراً.

لن نكون، في المقابل، بحاجة إلى التذكير بطائفية تنظيمات وفصائل سنّية لا تخفي ما هي عليه، ولا تستخدم شعارات منمّقة أو كاذبة. لكن ربما يكون ضرورياً تنبيه هواة التذرّع بالفوارق الشكلية إلى أن النهج الإيراني يحظى بترحيب الأسد، والفرق بين الأخير وطهران ليس في الاستثمار الطائفي بحد ذاته، وإنما في كون نسخته الأسدية ذات هدف أدنى بكثير، إذ لا يتعدّى الحفاظ على حكم العائلة. في النسخة الأسدية غير الصريحة، نقرأ إعلاناً صادراً عن “القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة”، نُشر في 11 أكتوبر2023، يتم بموجبه قبول متطوعين شباب “لتأهيلهم كصف ضباط وأفراد متطوعين لصالح قيادة الحرس الجمهوري. ينص الإعلان “المنشور في صفحة وزارة الدفاع- فيسبوك” في ديباجته على: تُقدّم الطلبات شخصياً إلى مركزي تطوع الحرس الجمهوري في دمشق وجبلة كل يوم اعتباراً من تاريخه…إلخ. هذا ما ورد حرفياً في الإعلان، وعلى من يقرأه ألا يكون خبيث الطوية فيسأل عن المغزى من استقبال المتطوعين فقط في دمشق وجبلة، علماً أن الأخيرة ليست حتى المركز الإداري لمحافظة اللاذقية؟

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا