سوريا: الشروع في تصفية العَليّات

إثر انتصار حافظ الأسد في المواجهة مع الإخوان المسلمين، وتخلّصه من شقيقه رفعت الطامح إلى وراثته في منتصف الثمانينات، راج بين السوريين أن وقت التخلّص من “العَليّات” قد حان. و”العليات” هنا هي جمعٌ مفرده علي، والإشارة كانت إلى رجالات الأسد الأب الأقوياء في الجيش والمخابرات، ومنهم علي حيدر وعلي دوبا، إلا أن كلمة “العليات” تخطت ما يكون عليه الاسم لتستوعب آخرين كانت لهم المكانة ذاتها من دون أن يحظوا بالاسم نفسه. هكذا مثلاً ضمّت قائمة العليات اسم شفيق فياض، وهو قائد فرقة للمهام الخاصة لمع نجمه في مجازر حلب وحماة.

وكانت مجريات المواجهة مع الإخوان قد أظهرت ما لم يكن ظاهراً لعموم السوريين لجهة تفاقم ظاهرة ميليشيات السلطة، مثل “الوحدات الخاصة” و”سرايا الدفاع” و”الفرقة الثالثة” و”سرايا الصراع”، على حساب مؤسسة الجيش، وكذلك تفاقم عقلية الميليشيا ضمن أجهزة المخابرات. لكن اقتضت طبيعة المواجهة آنذاك، كما شاء لها الأسد، أن ينال قادة تلك الميليشيات استقلالية نسبية تدفعهم إلى التنافس في مضمار القمع والوحشية، وأن يخرجوا من تلك المواجهة كأنهم شركاء في النصر، بل راح البعض منهم في مجالسه الخاصة ينسب لنفسه نصيباً أساسياً في صناعة النصر، قبل إقصائهم عن مراكز قوتهم الواحد تلو الآخر.

لا غرابة في أن يعيد التاريخ نفسه، فالأيام الأخيرة شهدت نشاطاً للأسد الابن أُرفق بأقاويل عن التخلص من مراكز القوى في أجهزة المخابرات العديدة، من أجل إتباعها على نحو أقوى للأسد. والمقصود بذلك القول أن الإجراءات الجديدة تهدف إلى إنهاء تسلط تلك الأجهزة بذريعة الأخطار الأمنية، حيث تُستخدم هذه الذريعة لفرض أتاوات على كافة أوجه النشاط الاقتصادي، بل تُستخدم في عمليات خطف جنائية من أجل طلب فدية.

على صعيد متصل، كان موقع “صوت العاصمة” قد نقل خبراً عن عثور “القوى الأمنية” في اللاذقية على سجن سري تحت الأرض، ضمن مستودع تابع لأبي علي خضر في مدينة اللاذقية خلال مداهمته الأسبوع الماضي. وعُثر في السجن السري على ثلاثة مخطوفين، أحدهم ابن تاجر حلبي معروف، كما تم اكتشاف جثتين في فناء المستودع، وأسلحة رشاشة ومواد مخدرة وكميات من المبالغ المالية المزوّرة. من شبيح محلي صغير في منطقة صافيتا ترقّى أبو علي خضر إلى صاحب حظوة لدى ميليشيا الفرقة الرابعة التي يرأسها ماهر الأسد، ثم أسس تحت مظلة الأخير شركة “القلعة للحماية والحراسة والخدمات الأمنية” عام 2017. وراح اسمه يحضر في الحديث عن مختلف أنواع الأتاوات على حركة البضائع الشرعية وعلى المصانع، وصولاً إلى ما يُحكى عن شراكته مع ماهر وأسماء الأسد.

والأقرب إلى الصواب وصفُ سجن أبي علي خضر بالخاص بدلاً من السري، ففي الواقع هناك ظاهرة راحت تنتشر منذ تكاثر الشبيحة للقضاء على الثورة، هي ظاهرة السجون الخاصة، وبعضها يُعرف مكانه بالضبط على نطاق واسع. وإذا كانت هذه السجون قد استُخدمت بدايةً للتنكيل بناشطي الثورة، فسرعان ما تحولت إلى سجون “قطاع خاص” يستخدمها أربابها لمصالحهم. في مثال على تلك المصالح، كُشف مؤخراً عن قيام مجموعة مسلحة تتبع “شجاع العلي” باختطاف المقاول محمود الرجب الذي رفض الانسحاب من مناقصة تمّ الإعلان عنها لإزالة الأنقاض وهدم المباني الآيلة للسقوط في حي الخالدية الذي تعرّض فيما مضى لحصار وقصف شديدين من قوات الأسد. ويُشاع أن لدى شجاع العلي العديد من السجون في القرى المتاخمة للحدود مع لبنان، حيث يعتبر المسؤول عن عمليات اختطاف السوريين عند الحدود، ويُشاع أيضاً أنه مدعوم من قبل حزب الله، ولديه قوة عسكرية في تلك المنطقة، وقيل أن أفراداً من شبيحته قتلوا بدم بارد امرأة وابنتها قبل قرابة شهرين، عندما كانتا تستقلان سيارة رفقة العائلة بقصد السفر إلى لبنان. أما آخر إنجازات شجاع العلي لأهالي قريته في ريف حمص فهو إقامته تمثالاً لبشار الأسد في القرية.

ما لم يكن محمياً حقاً من الحزب، قد يكون شجاع العلي واحداً من “العليات” الجدد الصغار المهدَّدين بالإقصاء. وكما هو معلوم ظهر إلى العلن خبر التخلّص من “أبو علي خضر” قبل أيام فقط من التنقلات المخابراتية التي أجراها الأسد، وأقصى بموجبها علي مملوك عن مكتب الأمن القومي لصالح كفاح ملحم الذي راجت مع تعيينه الإشاعات حول إعادة هيكلة أجهزة الأمن وضبط الانفلات العام الحاصل فيها وفي عموم مناطق سيطرة الأسد. على ذلك راجت التكهنات حول كون الخطوة مطلوبة عربياً أو روسياً وإيرانياً، أو كونها على سبيل ملاقاة مستجدات خارجية لصالح الأسد.

ولا شك في أن الواقعين تحت سيطرة الأسد يتمنّون أن يلمسوا نتائج حقيقية لإقصاء “العليّات”، وأن يوضع حدّ لاستباحتهم المستضعفين بلا ضوابط ولا روادع، رغم معرفتهم بأن هذا التوجّه لا يضع المصالح العامة في أولوياته. التفسير الشائع هو أن العائلة الحاكمة هي التي تصنع حيتان التشبيح والسطو، ثم عندما يسمنوا أكثر مما يجب يحين موعد اصطيادهم، وهناك أمثلة على شراكات بين العائلة وهؤلاء انتهت بالتخلص منهم تباعاً، بمن فيهم أقرباء مثل رامي مخلوف.

لكن التبسيط السابق لا يلحظ ما هو متصل في هذه الظاهرة بالحرب على السوريين، وقد حدث أيام حافظ الأسد ويتكرر حدوثه مع وريثه. ففي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات أطلق حافظ الأسد ميليشياته وفق منطق الحرب الأهلية، رغم أن دعايته كانت تصوّر الإخوان المسلمين كفئة ضالّة ليس لها شعبية. في عام 2011 لم يكتفِ الوريث بما لديه مسبقاً من ميليشيات، بل سمح وأمر منذ انطلاق الثورة بتشكيل المزيد منها على نية الدخول في حرب أهلية كبرى تدوم طويلاً. هذا التوسع اقتضى بطبيعته منح صلاحيات أوسع لاستخدام العنف، وعدم احتكاره من قبل “المؤسسات الرسمية” التي أصبحت بدورها طرفاً في الحرب ليس إلا.

حسب ما تؤول إليه، تصنع الحروب الخارجية أبطالاً أو مهزومين، أو مزيجاً منهما. أما حروب الداخل فهي بمعظمها تصنع أمراء حرب، البعض منهم يكون معروفاً على نحو مختلف من قبل، والبعض الآخر يبرز أثناء الحرب متمثِّلاً أحطّ وأفظع مستوى لها. لكن ضمن ما تبدو قاعدة عامة، من المفيد مقارنة “العليّات” الذين صعدوا في عهد حافظ الأسد بنظرائهم الذين صعدوا في عهد الابن، منذ عام 2011 على نحو خاص، فبهذه المقارنة يمكن إجراء معاينة لطبيعة السلطة وتحولاتها بين العهدين. في المعاينة تجدر ملاحظة ما يشبه حتمية في صناعة “العليات” ثم التخلص منهم، لكن مع ضرورة الانتباه جيداً إلى ما يعنيه الاختلاف بين علي حيدر أو علي دوبا وأبي علي خضر أو شجاع العلي.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا