سوريا.. حلول “الرئيس” الناجعة

معالجة الجوع في المجتمع تبدأ بوقف القنوات التلفزيونية بث برامج الطهي عبر شاشاتها. هذه ليست نكتة تتناقلها منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما رأي “رئيس” سوريا، وإحدى وصاياه لحفنة من الإعلاميين نالوا “شرف” لقائه مؤخرا. فبشار الأسد يظن أن وقف بث البرامج التي تعرض لأكلات لا يحتمل شعبه كلفتها، هو السبيل لتجاوز مشكلة الفقر المدقع الذي يغرق فيه غالبية من يعيشون في الداخل.

تحار في “ذكاء” هذا “الرئيس” ومقارباته الدونكشوتية للأزمات. هذا “الذكاء” يفسر بسهولة الكوارث المتلاحقة التي تعيشها سوريا منذ أن ابتليت به رئيساً، ولكن المشكلة أن الدول المعنية بالأزمة بعضها لا يريد أن يرى هذا “التميز” للأسد، والبعض الآخر مستمتع به لما يجلبه لهم من فائدة ومنفعة. فليس أفضل للمحتل الإيراني والروسي مثلاً، من قيادة سياسية “متقدة” الفكر كرأس السلطة في دمشق وبطانته الانتهازية.

بلغة الأرقام تقول الأمم المتحدة إن حوالي ستين في المئة من السوريين، أي ما يزيد على اثني عشر مليون شخص، لا يحصلون بانتظام على ما يكفي من الغذاء. هذا الواقع دفع بالملايين إلى بيع أصولهم وماشيتهم ليأكلوا ويطعموا أطفالهم أقل من الحد الأدنى، كما أصبحوا يرسلون أولادهم للعمل بدلا من المدرسة. فبات أكثر من نصف مليون طفل دون الخامسة يعانون من التقزم نتيجة سوء التغذية المزمن، وفي الشمال الغربي والشمال الشرقي، تظهر بيانات مراقبة التغذية أن واحداً من كل ثلاثة أطفال في بعض المناطق يعاني من التقزم، وتأثير ذلك على تطورهم وتعليمهم سيكون مدى الحياة.

على ذمة طبيب سوري تحدث لوكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة مارك لوكوك، فإنه من بين 80 سريرا للمرضى، يشغل نصفها أطفال يعانون من سوء التغذية. وقد لقي خمسة أطفال حتفهم في مستشفاه نتيجة لسوء التغذية في الشهرين الماضيين. كما أخبرته طبيبة أطفال أخرى أنها تشخص سوء التغذية لحوالي 20 طفلا يوميا، لكن الأهالي لا يدركون ذلك ويجلبون أطفالهم إليها لأسباب مختلفة.

أمام هذه الأرقام والمعطيات يعتقد “الرئيس” أن وقف برامج الطهي هو الحل الأنجع للجوع والفقر في سوريا. لا تخطر له أن يتعاون مع المجتمع الدولي في حلحلة أزمة بلاده سياسيا واقتصاديا، ولا يفكر بحلول تخفف من تأثير العقوبات الاقتصادية الأميركية التي يعانيها الشعب بسبب وجوده على رأس السلطة، والمستحيل طبعا أن يخطر له الاستقالة ومغادرة البلاد كي يحمي أجيالا من الموت والتشوه والجوع والفقر.

هو ذات “الرئيس” الذي قال إن الأزمة الاقتصادية في بلاده وقعت بسبب أموال السوريين المخبأة في بنوك لبنان. لا تعرف إن كان جهله أو غروره هو ما يجعله عاجزا عن رؤية الأسباب الحقيقية للكارثة، أو ربما يعتقد فعلاً أن السوريين صدقوا كذبة المؤامرة الكونية على البلاد، وهم يرجعون كل مصائبهم لها. لمَ لا وهو لا يلتقي من الشعب إلا بالانتهازيين والمتملقين الذين يطمعون بمنصب أو حفنة من الدولارات.

ولأن “البطريرك” لا يمكن الوصول إليه خلف أسوار قصوره التي لا ينقطع عنها الماء ولا الكهرباء والغذاء، ولا يضطر فيها إلى إرسال أولاده للعمل بدل الدراسة، لم يجد السوريون أمامهم سوى منصات التواصل الاجتماعي ليشكوا إليه ضيق حالهم وتردي أوضاعهم. حتى هؤلاء الذين كانوا يظنونه “بطلاً” و“منقذاً” للأمة، انفجروا برداً وجوعاً وغضباً في وجهه، وراحوا يملأون الدنيا صراخا ونحيبا واستغاثة.

فنان مؤيد لـ”الرئيس” مثل بشار إسماعيل ينشد الموت وجهنم هربا من واقع أسوأ بكثير يعيشه اليوم في عهد الأسد. وفنانة مؤيدة مثل منى واصف ترثي حالها وحال من حولها في البرد والجوع، بنبرة تحذر فيها “الرئيس” من انفجار الناس نتيجة لسوء الأوضاع المعيشية في البلاد. فمن يبيع أبناءه ويأكل من القمامة لن يجد صعوبة في ارتكاب الجرائم، أو الثورة على النظام، أو الانضمام لفصيل مسلح يعارض الأسد.

لا حياة لمن تنادي، وكل الشكاوى والأصوات التي ترتفع لتطالب “الرئيس” بالحل ستنتهي إلى سلة القمامة، أولا لأنه لا يهتم ولا يكترث لحال الشعب، وثانيا لأنه لم ولن يصل يوما إلى حلول ناجعة للأزمة الممتدة في البلاد منذ عشر سنوات، فكيف يعالج مشكلة هو الأصل فيها، ووجوده يعني استمرارها واستحالة الخلاص منها.

قبل عقد من الزمن اختار “الرئيس” أن يعاقب سوريا بأكملها لأن أطفالا من محافظة درعا كتبوا على جدران مدينتهم أن “الأسد يجب أن يرحل”. فضّل موت الشعب بأكمله على رحيله. اختار تشريد الملايين وقتل مئات الآلاف واعتقال أكثر منهم، على الاستقالة والتخلي عن الكرسي. قرر أن يبقى رئيسا على رجال ونساء يسفون التراب كل يوم بسببه، وأطفال أصابهم القزم، وعبث بهم وبمستقبلهم الجوع والفقر.

هذا “الأسد” يرشح نفسه اليوم لولاية رئاسية جديدة تمتد على سبع سنوات قادمة. جل ما يمكنه فعله هو عقد لقاءات مع إعلاميين مطبلين يبحثون عن المال والنفوذ على جثث الأيتام والجوعى والفقراء. وعندما يحين موعد الانتخابات “الاستفتاء” منتصف مايو المقبل، ستتكفل أجهزته الأمنية والعسكرية بإجبار الناس على التصويت له، أو بإحصاء أصواتهم دون حتى أن يغادروا منازلهم أو مواقع عملهم في ذلك اليوم.

ما يراهن عليه “الرئيس” هو صمت المحتلين الخمسة لسوريا عن ولايته الجديدة، وهو لم ولن يبخل في منحهم البلاد قطعة تلو الأخرى مقابل ذلك. هذا ما يبرع به “الأسود” منذ بداية عهدهم في سبعينات القرن الماضي. الأب وضع الوصفة السحرية للسلطة والابن يثابر عليها، فحوى الأمر باختصار: امنح الخارج ما يريدون من خيرات البلاد، واسلب الداخل كل ما لديهم بحجة الأمن القومي. يتمسك “الرئيس” الابن بهذه الطريقة ظنا منه أنها تناسب كل زمان ومكان، وهذه علامة فارقة أخرى من علامات “ذكائه”، الذي أشار عليه بوقف برامج الطهي كي ينقذ الناس من الجوع والفقر والموت.

المصدر العرب


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا