ما ينتظر سورية في عام 2024: الهجرة والصراع والدبلوماسية

نُشر هذا المقال لأول مرة باللغة التركية بتاريخ 8 كانون الثاني 2024 ، على موقع ” FIKIRTURU “.

لماذا يحتمل أن يكون الحديث بخصوص سورية أكثر هذا العام؟. ما هي الظروف/ العوامل التي ستؤدي إلى موجة جديدة للهجرة/ النزوح؟. ما هو المتوقع في العلاقات بين أنقرة ودمشق؟

نحن ندخل السنة الثالثة عشرة من الحرب “الأهلية “في سورية، وعلى الرغم من أن البلاد عادت من حافة التفكك، إلا أن القطع/ الاحجار ليست في مكانها، بالنسبة للدول البعيدة عن سورية، فإن التفكير في المرحلة الحالية من الحرب “الأهلية” أو استقرار سورية، قد لا يكون له معنى أكثر من مجرد رياضة فكرية.

ولكن مواطني دولة مثل تركيا، المجاورة لسورية، والتي تشعر بتبعات الحرب “الأهلية” فيها حتى النخاع، لا تملك ترف نسيان سورية أو عدم متابعتها.

في الواقع، لا يُمضي الكثيرون فترات طويلة دون أن تظهر أمامهم أخبار تتعلق بسورية، يمكن أن تبرز قضية سورية في سياق جهود تركيا لمكافحة “الإرهاب” ضد PKK/PYD، وضمن إطار النقاش حول ضربات “إسرائيل” الجوية، والنقاشات حول عودة مواطني سورية إلى بلادهم. يبدو أننا سنتحدث عن سورية بشكل أكبر في عام 2024 مقارنة بالسنوات القليلة الماضية.

الوضع الحالي في سورية

لنقم بمراجعة الوضع الحالي في سورية.

حالياً، تم تقسيم سورية فعلياً إلى أربعة أقسام: جزء كبير من البلاد يخضع لسيطرة “الحكومة” السورية، وفيما يتعلق بمناطق ريف الرقة والجزيرة ودير الزور، فإن معظمها تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب الكردي (PKK/PYD)، أما إدلب ومحيطها فتخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام (HTŞ)، بينما تدير مناطق مثل (عفرين، الباب، أعزاز، جرابلس، تل أبيض، وغيرها)، “الجيش الوطني” (SMO) التابع للحكومة السورية المؤقتة (SGH).

منذ بداية عام 2020 لم تحدث تغييرات كبيرة في مناطق السيطرة المذكورة، ولكن ذلك لا يعني أنه لم تحدث تطورات مهمة في سورية.

إذا قمت بتقييم توازنات سورية فقط في إطار قضايا “الأمن” العسكري، ستلاحظ الأمور المتعلقة بـ “ضرب هذا المكان” أو “هجوم على تلك المنطقة”، ولكن في هذه الحالة ستفوتك العوامل التي تكشف عن الأسباب الرئيسية للفوضى في سورية. قبل تحليل المستقبل القريب دعني أبُين العوامل التي تم تجاوزها.

بؤس/ فقر الاقتصاد

تجاوزت تكلفة الحرب “الأهلية” للاقتصاد السوري 1.2 تريليون دولار، وللوصل الى الحالة الاقتصادية التي كانت قبل الحرب بالنسبة لبلد ذي موارد متواضعة مثل سورية، قد يتطلب على الأقل 20 عاماً، ولكن لا يزال الوضع الاقتصادي في سورية يتدهور بدلاً من التحسن.

في المناطق التي تديرها دمشق تدهور الوضع الاقتصادي للحد الذي أصبح فيه السبب الرئيسي للهجرة الداخلية هو تدهور الاقتصاد ولم تعد مشكلات الأمان، وليس في دمشق ومحيطها فقط يظهر/ يُلمس تأثير المشكلات الاقتصادية، بل يوجد وضع متأزم في البلاد بأكملها، فالرواتب منخفضة والأسعار مرتفعة للغاية ولا يوجد استثمار أو فرص عمل.

إن انهيار السلطة العامة وهو النتيجة الحتمية للحروب الأهلية أصبح ملموساً في كل مكان من سورية، وتنقسم المنطقة التي تسيطر عليها “الحكومة السورية” إلى مناطق نفوذ لإيران ولروسيا، حيث تحاول “الحكومة” إنقاذ الموقف بموارد شحيحة، في حين وضع حزب الاتحاد الديمقراطي وهيئة تحرير الشام نفسيهما مكان الدولة في المناطق التي يسيطران عليها.

وفي المناطق الخاضعة لسيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” تكون السيطرة على الموارد الاقتصادية والإدارة بيد المجالس المحلية…كما تلاحظون لا أحد في سورية يحكم على أساس سياسي وإداري واقتصادي يمكنه رؤية المستقبل لفترة كافية لوضع خطط للمستقبل.

تأثيرات الحروب الأخرى

عامل آخر يؤثر على التطورات في سورية، ويسبب تراجعاً في جدول أعمالها هو “الحروب الأخرى”.

تذكروا كم كان الميدان السوري نشطاً قبل جائحة كوفيد-19، أدت عمليات دمشق في إدلب وعملية نبع السلام التركية وسيطرت الولايات المتحدة  الامريكية على آخر معاقل تنظيم “الدولة الإسلامية” من منتصف عام 2018 حتى بداية عام 2020، إلى جعل الميدان السوري نشطًا للغاية، وبعدما تراجعت تأثيرات الوباء في نهاية عام 2021 عادت سورية إلى الأضواء.

تذكروا كيف حولت الطائرات الروسية إدلب إلى بحيرة من الدماء وكيف توجه الآلاف من السوريين مجدداً نحو الحدود التركية.

في ذلك الوقت تم إيقاف هذه العمليات الجوية العنيفة بعد اجتماع الرئيس التركي أردوغان مع بوتين، خلال زيارته إلى سوتشي، وبعد حوالي 4 أشهر من ذلك بدأت الحرب بين روسيا وأوكرانيا ولذلك بدأت الولايات المتحدة وروسيا والدول الغربية في تقسيم مصالحهم، لكن هذه المرة في أوكرانيا وليس في سورية.

مع استمرار الحروب الأخرى لن يكون هناك تغيير كبير في الأفق في سورية. لكن أريد أن أؤكد انه مستمر.

الجميع يقوم بترتيب بيته الداخلي

تحول غياب الصراعات الكبرى الجديدة في سورية والجهات الفاعلة المحلية الأربع، التي تسيطر على المناطق الأربع إلى محاولات لتعزيز سلطتها في مناطقها.

“الحكومة” السورية عام 2023

ركزت “الحكومة” السورية بعد اتفاق أستانة جهودها لتحقيق السيطرة الاجتماعية والسياسية الكاملة في المناطق التي أعيدت السيطرة عليها من خلال العمليات العسكرية، وسعت للتغلب على مشكلة الشرعية في الساحة الدولية.

لذا كان عام 2023 عاماً هاماً لدمشق، حيث تم اتخاذ خطوات مهمة. أولاً: من خلال الاجتماعات على مستوى الوزراء مع تركيا، ومن ثم مشاركة دمشق في اجتماعات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، مما يشير إلى إعادة قبول دمشق دبلوماسياً. وفي المقابل لم تقف الجهات الفاعلة الأخرى مكتوفة الأيدي.

ماذا فعلت هيئة تحرير الشام؟

على سبيل المثال، سيطرت هيئة تحرير الشام بالكامل على إدلب بعد منتصف عام 2020.

اضطرت هيئة تحرير الشام إلى تقاسم السيطرة على إدلب مع جماعات مثل أحرار الشام وفيلق الشام وجيش العزة وجيش النصر، عندما أطلقت الشراكة الروسية الإيرانية السورية عملية في إدلب عام 2019. بالإضافة إلى ذلك كان حراس الدين فرع القاعدة في سورية قوة مهمة جداً في إدلب في ذلك الوقت.

قام زعيم هيئة تحرير الشام “أبو محمد الجولاني” في غضون 3 سنوات بالقضاء على “المعارضة المعتدلة” اولاً ثم اعضاء تنظيم القاعدة، ثم التفت إلى داخل منظمته وأزال تباعاً من المسرح الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا بديلاً له داخل هيئة تحرير الشام، وخلال ذلك قام بطرد الحكومة السورية المؤقتة من إدلب وشكل “حكومة” جديدة.

 هكذا تحولت إدلب إلى منطقة تابعة لهيئة تحرير الشام. واليوم تسيطر هيئة تحرير الشام على مساحة 2800 كم2 في إدلب، ولديها أكثر من 20 ألف مسلح مرتبط بها مباشرة.

حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) لم يقف مكتوف الأيدي

على نفس المنوال، لم يقف حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) متفرجاً، حيث قضى على جميع المنافسين له المحتملين في الأراضي التي يسيطر عليها.

ورغم أنه عقد اجتماعات مع “المجلس الوطني الكردي السوري” عدة مرات تحت مسمى اجتماعات المصالحة الكردية، إلا أنه طردت جميع المجموعات بشكل كامل بما في ذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري من المنطقة. وفي موازاة ذلك ومع الدعم الذي تلقاه من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، قدم نفسه على المستوى الدولي على أنه “القوة التي دمرت داعش”.

علاوة على ذلك وبينما كانت شريكاً عملياتياً للولايات المتحدة الامريكية في الحرب ضد الإرهاب في سورية حتى نهاية عام 2018، تحول إلى شريك دائم للولايات المتحدة الامريكية في سوريا في السنوات الثلاث الماضية.

أعاد هيكلة المنطقة التي كان يسيطر عليها وأدخل العديد من التغييرات في النظام الإداري، وبفضل الموارد المالية والخبرات التي حصل عليها من حلفائه الغربيين، سرعان ما تحول إلى منظمة إرهابية مسلحة، مضيفاً إلى هويته سمة كونه تنظيماً دخل “عملية الدولة/ التحول لدولة”.

وعلى الرغم من أنه واجه مشاكل خلال هذه العملية مثل ثورة/ تمرد العشائر العربية السنية، ورفضه لدور اتخاذ موقف علني ضد إيران الذي اقترحته الولايات المتحدة الامريكية، والعمليات العسكرية التي نفذتها تركيا، إلا أنه نجا بطريقة ما من هذه العمليات رغم الصعوبات.

ونتيجة لكل ذلك، أعلن عن مشروع سياسي جديد في إطار مطلب “الكونفدرالية” الذي تجسدت فيه الحجج الأيديولوجية لحزب العمال الكردستاني.

وضع المعارضة

أمضى المعارضون المعتدلون السنوات الثلاث الماضية في حالة تأهب دائم.

وعلى الرغم من أنه كان يحذوهم الامل في دخول تل رفعت ومنبج لعدة مرات، إلا أنهم واجهوا عراقيل من قبل الولايات المتحدة الامريكية وروسيا.

 لكن على عكس الجهات الفاعلة الأخرى لم تكن الحكومة السورية المؤقتة قادرة على احتكار السلطة والموارد المالية والقوة المسلحة من خلال القضاء على مجموعة من المنافسين المحتملين في المنطقة، وبالعكس من ذلك تعمقت وتصاعدت الخلافات بين العديد من الفصائل المسلحة التي اتحدت على الورق تحت مظلة الجيش الوطني السوري. وفي بعض الحالات قاتلوا بشكل مشترك ضد حزب العمال الكردستاني/حزب الاتحاد الديمقراطي؛ وفي بعض الأحيان قاوموا هجمات هيئة تحرير الشام. من ناحية أخرى، كثيراً ما اشتبكوا مع بعضهم البعض، وأحياناً تتعاون بعض مجموعات الجيش الوطني السوري (لن أخوض بتفاصيل ذكر الأسماء) مع هيئة تحرير الشام الذين اجتمعوا معها تحت سقف واحد وقاموا بإعداد كمائن لشركائهم.

في هذه الأثناء، أرادت معظم مجموعات الجيش الوطني السوري منع الحكومة السورية المؤقتة من اكتساب القوة. ولهذا السبب، ظهرت هيكل/ بنية لامركزية غريبة في المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة السورية المؤقتة في شمال سورية، حيث ازدادت أهمية الإدارات المحلية وأصبحت البلديات ذات ثقل وصلاحيات شاملة.

وفي ظل هذه المشاكل لم تتمكن الحكومة السورية المؤقتة من تطوير سلطة قوية، كما فعل حزب الاتحاد الديمقراطي وهيئة تحرير الشام.

بالإضافة لذلك فإن الجهود المبذولة لتطوير مشروع ملموس يجد الدعم الدولي، لم تكن كافية بسبب التحديات الداخلية التي كانت تواجهها الحكومة المؤقتة.

وعندما فشلت المجموعات الممثلة للمعارضة في بلورة مشروع سياسي مشترك، أثر هذا الوضع أيضاً على عوامل أخرى في شمال سورية، بدون قوات مسلحة وموارد مالية منظمة لغرض واحد، كانت المعارضة هي المجموعة الأقل قدرة على تجميع “بيتها الخاص” في السنوات الثلاث الماضية.

ماذا ينتظر سورية في 2024؟

لا يوجد أي مؤشر واضح يشير إلى أن هذا العام سيمر كما كان الوضع في السنوات السابقة.

من المحتمل ان تحل ديناميكيات جديدة محل العوامل الداخلية والخارجية التي ضمنت الهدوء النسبي في سورية خلال السنوات السابقة، من أين استخرج هذا الكلام؟.

 أولاً، أبدأ بتطور وقع منذ فترة ولم يلق الاهتمام في جدول أعمال بلادنا(تركيا) السريعة الخطى.

أزمة الغذاء القادمة في سورية

كان برنامج الأغذية العالمي الذي يعمل في إطار الأمم المتحدة (UN) أحد أهم الجهات الفاعلة في منع الجوع وتعميق الجروح في سورية التي سببتها الحرب “الأهلية” ومنعها من التحول لكارثة أكبر منذ سنوات.

وبحسب بيانات برنامج الغذاء العالمي، فإن عدد الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الحصول على الغذاء في سورية، يبلغ 12.9 مليون شخص؛ ويبلغ عدد السكان المعرضين لخطر الجوع 2.6 مليون، ومؤخراً حسب بياناتها، أعلنت المنظمة التي توفر توزيع المواد الغذائية لإجمالي 5.6 مليون شخص في 14 محافظة في سورية، أنها ستواصل بعض أنشطتها في سورية عام 2024 بسبب نقص الميزانية، ولكنها ستوقف توزيع الغذاء.

لم تكن منظمة الأغذية العالمية هي الوحيدة التي حذرت من الأزمة المتوقعة في توزيع الغذاء، فحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، من المحتمل جداً أن يواجه من يعيش في المخيمات والمساكن المؤقتة مشكلة غذائية كبيرة اعتباراً من كانون الثاني/ يناير 2024.

خمنوا مرة أخرى، وفقاً لبيانات برنامج الغذاء العالمي من هي المنطقة التي ستواجه صعوبة أكبر في الحصول على الغذاء، أي أنها ستكون الأكثر عرضة لخطر الجوع نتيجة تعليق البرنامج؟

ادلب

تأتي بعد ادلب من حيث مشكلة النقص الغذائي أجزاء من عفرين الخاضعة لسيطرة المعارضة وشمال حلب، لكن يشير التقرير إلى أنه من المتوقع أن تواجه مشكلة مماثلة معظم المدن التي تخضع لسيطرة “الحكومة السورية” وإن لم يكن بنفس القدر في هذه المناطق.

باختصار، من المتوقع اعتباراً من الشهر المقبل على الأقل، أن يعاني أكثر من 2.5 مليون مع التوقعات الأكثر تفاؤلاً وبشكل اكثر تشاؤماً سيصل الرقم إلى 5.5 مليون شخص، ولا يعتبر توقع نتائج ذلك صعباً، سوف ترتفع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير وسيضطر مئات الآلاف من الأشخاص إلى الذهاب إلى أماكن أخرى للبقاء على قيد الحياة. إذا وضعنا النزوح داخل سورية جانباً، فإن إحدى الطرق الأكثر احتمالاً لتنقل السكان هي تركيا حتماً.

الاقتصاد في أزمة كبيرة

عند هذا النقطة، علينا أن نتذكر مؤشرات الاقتصاد مرة أخرى.

كانت الحالة المأساوية للاقتصاد السوري قد تسببت بحدوث تنقل للسكان داخل البلاد في العامين الماضيين. كان آلاف الأشخاص يبيعون ما تبقى لديهم وينطلقون في مجموعات من 5 أو 10 أشخاص ليذهبوا أولاً إلى المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة ومن ثم إلى دول العالم.

ويدخل الاقتصاد السوري في أزمة كبيرة، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى الانخفاض الكبير والسريع في قيمة العملة الوطنية، فضلاً عن عدم تلقي الدعم الاقتصادي المتوقع، ومن غير الممكن أن يتعافى الاقتصاد في البلد الذي مزقته الحرب دون موارد خارجية.

لذلك قد يكون من الممكن أن تنتج الأزمة الاقتصادية عواقب اجتماعية خطيرة في عام 2024. ولم تحظ باهتمام كبير المظاهرات التي انطلقت أواخر عام 2023 في السويداء التي يعيش فيها الدروز، وهي فئة لم تشارك بشكل كبير في الانتفاضة السورية، لكن إذا أمعنا النظر هناك فان الردود المنبثقة من هناك تحمل إشارات قد تتحول إلى فيدرالية أو انفصالية.

هناك عامل آخر يجعل عام 2024 مختلفاً عن الأعوام السابقة، وهو نتائج توحيد الجهات الفاعلة المحلية.

هل هناك حركة سكان جديدة على الأبواب؟

تشعر “الحكومة” السورية بمزيد من الأمان انطلاقاً من اعتبار أنها زادت قوتها بشكل كبير داخلياً وخارجياً، وإذا تمكنت من التغلب على المشاكل الاقتصادية، فيمكنها الوصول إلى مستوى آمن حقاً.

بالإضافة لذلك توجد عوامل تشير إلى إعادة تحرك دمشق عسكرياً من جديد، مثل: إعلان ما يسمى مبادرة “العقد الاجتماعي” التي أطلقها حزب الاتحاد الديمقراطي والتي مهدت الطريق للانفصال؛ صراع منخفض الحدة بين إيران والولايات المتحدة على الأراضي السورية؛ الفوضى التي تواجهها هيئة تحرير الشام في إدلب نتيجة للمواجهات الداخلية، وأخيراً الرغبة في إخفاء الأزمة الاقتصادية من خلال خلق أجندة أخرى، فكرة “التحرك” هذه هي التي تقف وراء الهجمات التي تعرضت لها المناطق السكنية وخاصة وسط المدينة في إدلب في الأيام الأخيرة من العام.

بالطبع، يعتبر إجراء عملية مشابهة لعملية إدلب عام 2019 غير ممكن حالياً، خاصةً مع انشغال إيران في شرق سورية، ولبنان، وتحليق الطائرات الإسرائيلية في أجواء سورية، ولا تزال روسيا غير قادرة على توجيه اهتمامها الكامل نحو سورية بسبب الحرب في أوكرانيا.

 لكن لم يعد هناك حاجة لإجراء عملية مماثلة لتلك التي جرت عام 2019، اذ يمكن أن يثير قصف المدنيين في إدلب حركة نزوح سكانية أقوى بكثير، دون الحاجة إلى استخدام قوة عسكرية كبيرة، خاصة مع تفاقم المشكلات الاقتصادية ونقص الغذاء التي يعاني منها السكان المدنيون.

ماذا سيحدث في ادلب؟

مع هذا، في عام 2024 قد تتأثر ادلب ليس فقط بالضغط الذي تمارسه دمشق، بل أيضاً بالوضع الجديد الذي تواجهه هيئة تحرير الشام أثناء توطيد سلطتها.

الخطوات التي اتخذها “الجولاني” زعيم هيئة تحرير الشام قبل بضعة أشهر لتعزيز سلطته جعلته أقوى بكثير، لكن الوضع تغير عندما بدأ “الجولاني”- الذي لم يكن راضياً عن ذلك- عمليات عسكرية واحدة تلو الأخرى للسيطرة على مناطق المعارضة مثل عفرين وجرابلس وأعزاز والراعي/ شوبان بي، في هذه العملية ارتكبت هيئة تحرير الشام نفس الخطأ الذي ارتكبته “داعش” وحزب العمال الكردستاني/حزب الاتحاد الديمقراطي والنصرة في الماضي وهو: التوسع المفرط. أراد “الجولاني” التوسع في مناطق أكبر مما يستطيع السيطرة عليها في وقت قصير، فكان بحاجة إلى موارد مالية لهذا الغرض، لذلك أضاف من وجده على الطريق من حلفائه السابقين وهكذا ظهرت تصدعات في القدرة الإدارية لهيئة تحرير الشام.

في الستة أشهر الأخيرة زاد التوتر في إدلب حيث أعلن “الجولاني” أن العديد من قادة هيئة تحرير الشام (HTŞ) خونة وتم بدء القبض عليهم وإسكاتهم وقتلهم، ولهذا السبب كان منافسو “الجولاني” الآخرين داخل هيئة تحرير الشام واثقين من أن دورهم سيأتي، لذلك نظم البعض انفسهم داخل التنظيم ضده، وهرب البعض الآخر مبكراً، وكانت حادثة “أبو أحمد زكور” التي وقعت في الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول/ ديسمبر من أهم الأمثلة على هذا الوضع. فـ”زكور” الذي كلفه “الجولاني” بالسيطرة على اعزاز واستخدم علاقاته العائلية لمهاجمة المعارضة المعتدلة، وجد أن حياته في خطر فلجأ إلى منطقة المعارضة.

حاول “الجولاني” القيام بعملية عسكرية لاعتقاله، لكن إيقاف تركيا لهيئة تحرير الشام أدى إلى فشل مساعيه وكشف الغسيل القذر داخل هيئة تحرير الشام.

التسجيلات الصوتية التي نشرها زكور مليئة بالمعلومات السرية التي تحتوي على الكثير من المعلومات، حول ما حدث في سورية منذ فترة. لكن هذه ليست المشكلة الحقيقية.

المشكلة التي تواجهها هيئة تحرير الشام هي أن ضغط مدفعية دمشق على إدلب، وقطع المواد الغذائية عن سورية، والكشف عن الصراع داخل المنظمة يحدث في وقت واحد، وهذا الوضع يخلق فرصة “للحكومة” السورية.

ويمكننا تحديد هذه الفرصة على النحو التالي: في حين تواجه هيئة تحرير الشام وضعاً صعباً لحشد الأهالي الذين ما زالوا يريدون مغادرة إدلب، ولكنهم يخشون الخوض في الطرقات خوفاً من الأجهزة الأمنية التابعة لهيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى نقص المواد الغذائية، وسوء الأحوال الجوية، وقصف المنازل، وبالإضافة لانشغال قوات الأمن الداخلي التابعة لهيئة تحرير الشام بمشاكل أخرى، مما جعل الهيئة في وضع لا يسمح لها بإيقاف أي شخص، والآن تستطيع “الحكومة” السورية نقل تحريك الامور في إدلب بتكلفة أقل من بدء عملية عسكرية بآلاف الجنود.

إذا تحركت القطع/ الحجارة في إدلب

ماذا سيحدث لو تحركت الحجارة في إدلب؟. هل سيلجأ ويعيش أكثر من مليوني شخص في “أطمة” والقرى المحيطة بها، والتي تعتبر آمنة لأنها قريبة جداً من الحدود التركية؟

قبل الحرب “الأهلية” كان يعيش 5000 شخص في أطمة والقرى البلدات الاكبر قليلاً، تجاوز عدد السكان الآن، المليون شخص، وموجة الهجرة إلى هذه المنطقة الصغيرة لن تظل محصورة بها، بل ستتجاوزها.

وفي حال بدأ انتقال السكان، سيبدأ هؤلاء الأشخاص بالتحرك نحو تركيا أو المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية المؤقتة. وفي هذه الحالة ستكون معجزة أن تتغلب الحكومة السورية المؤقتة على التحديات التي ستواجهها بمفردها، ولذلك فإن تحقيق هذا الاحتمال قد يجعل الحكومة السورية المؤقتة أكثر أهمية من أي وقت مضى، علاوة على ذلك يمكن أن تتحول الحكومة السورية المؤقتة في المنطقة الشمالية لسورية إلى هيكل مركزي أكثر قوة، وتصبح الفاعل الرئيسي في تجنب وإدارة الأزمات الإنسانية المحتملة وتحركات السكان.

الحكومة السورية المؤقتة بحاجة إلى دعم الجيش الوطني السوري. ولكن إذا كانت الشائعات صحيحة بخصوص أن الجيش الوطني السوري يسعى لمغامرات جديدة والبحث عن مسارات جديدة خارج سورية، فإن الحكومة المؤقتة لن تكون لديها القدرة على توفير الأمن المحلي، وقد يتسبب هذا الوضع في حالة من انعدام الأمن الشامل في شمال سورية.

في هذا الحالة مع العامل الذي سأخبركم به الآن، قد يتم تذكر التعاون الذي تم تأجيله لفترة من الوقت مرة أخرى.

العلاقات التركية -السورية قد تكون على جدول الأعمال مرة أخرى

ما هو هذا العامل الذي سأخبركم عنه؟

مبادرة حزب الاتحاد الديمقراطي يسميها “العقد الاجتماعي”.

الموضوع الذي كتبت عنه التحليل الأخير لعام 2023 هو خارطة الطريق التي نشرها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سورية، في نسخة منمقة لمفاهيم “حزب العمال الكردستاني” تتضمن الولاء الشكلي والانفصال في جوهره. واستطاع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي وضع حجر الأساس للانفصالية بشعار الولاء لدولة غير موجودة، أن يثير حفيظة أنقرة ودمشق في الوقت نفسه.

بصراحة، حتى بضعة أسابيع مضت، لم يكن من السهل الادعاء بأن أنقرة ودمشق منزعجتان بنفس القدر من حزب الاتحاد الديمقراطي، لقد أظهرت أنقرة منذ فترة طويلة أنها ستبذل قصارى جهدها لتدمير الهيكل الذي أنشأه فرع حزب العمال الكردستاني في سورية.

خلال هذه الفترة، اعتقدت دمشق أنها قادرة على “حل مشكلة حزب العمال الكردستاني/حزب الاتحاد الديمقراطي دون إطلاق رصاصة مع توسيع هيمنتها الإقليمية في إدلب”.

ولكن عندما تم نشر خريطة الطريق الأخيرة لحزب الاتحاد الديمقراطي بعنوان “العقد الاجتماعي” كان ينبغي وضع حقيقة واحدة بوضوح أمام أعين دمشق: ليس لدى حزب الاتحاد الديمقراطي أي خطط للبقاء داخل سورية؛ إنه ينتظر الوقت المناسب.

بدأ حزب الاتحاد الديمقراطي يرى نفسه عنصراً مهماً في الصراع بين الولايات المتحدة الامريكية وإيران، والذي اشتد في منطقة تمتد من شمال شرق سورية إلى غرب إيران، ولهذا السبب لم يكن هناك ضوء أحمر من الدول الغربية للنص الذي نشره حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا الوضع يجعل مهمة دمشق صعبة.

إذا لم تتمكن سورية من حل قضية حزب الاتحاد الديمقراطي قبل الانتخابات الأمريكية، فقد تضطر إلى حل المحاولة الانفصالية في شمال شرق سورية مع “دونالد ترامب” الذي يظل احتمالاً قائماً على الرغم من أن ترشيحه لم يتم الانتهاء منه بعد.

أعتقد أن مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد “ترامب” بينما أصبحت الحرب في الشرق الأوسط شرسة للغاية ستكون بمثابة الدخول إلى غرفة مظلمة بشكل أعمى.

لذلك، فإن السيناريو المحتمل الذي سنواجهه في عام 2024 سيبدو كما يلي: سيتزايد التهديد الذي تتصوره دمشق من حزب الاتحاد الديمقراطي؛ وستكون قادرة على إطلاق عمليات حاسمة في إدلب بتكلفة منخفضة؛ إن “الحكومة السورية” التي ستدرك أنها لن تكون قادرة على تلقي الدعم من إيران بسبب تعاملها مع الولايات المتحدة وإسرائيل في لبنان والعراق، سوف تضطر إلى احتضان الطرف الوحيد الذي يمكنه التعاون ضد المشاكل المشتركة وهو: تركيا.

وأهم المشاكل التي قد تنشأ من سورية بالنسبة لتركيا هي الهجرة/ النزوح والإرهاب والانفصالية، وهذه القضايا ليست مجرد مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية. ففي الانتخابات التي أجريت قبل عام نوقشت قضايا أخرى بقدر ما تم به مناقشة تتعلق بتكاليف المعيشة، مثل: الهجرة ومكافحة الإرهاب، ومن المرجح أن تطرح هذه القضايا على جدول الأعمال مرة أخرى قبل الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها نهاية اذار/ مارس المقبل، وفي هذه الحالة قد نشهد استمراراً لجولات الإحماء بين أنقرة ودمشق التي بدأت عام 2023 وربما أكثر.

 ورغم أن الحكومتين ما زالتا لا تثقان ببعضهما البعض إلا أن كل منهما تتمتع برؤية عقلانية بالقدر الكافي لعدم استبعاد إمكانية التعاون على أساس التهديدات المشتركة.

ملاحظة أخيرة

الملاحظة الأخيرة: في ظل أجواء لا تزال فيها حرب أوكرانيا مستمرة، يمكن أن تكون الخطوات الجذرية في سورية بطيئة جدًا، ويبدو أن الاتجاه لوقف الحرب في أوكرانيا هو السائد في بعض الدول الغربية، ووقف إطلاق النار الحالي قد يدفع روسيا إلى الدخول في عملية التعافي.

ومن ناحية أخرى، فإن التحركات الأميركية- الإيرانية – الإسرائيلية المحدودة، التي تبدأ من غزة وتمتد إلى لبنان والعراق، قد تعيد مركز الصراع في العالم إلى الشرق الأوسط. ورغم أن الحرب أصبحت تحت أنظار سورية مرة أخرى، إلا أن أمامنا طريقان: إما أن تدفن الأطراف الأحقاد إلى الأبد، أو تتحول سورية مرة أخرى إلى ساحة معركة مثل العراق ولبنان. دعونا نأمل أن يكون الأول، لكن في كلتا الحالتين، سيتم الحديث عن سورية مثل العراق في عام 2024 أكثر من السنوات السابقة.

ترجم المقال لـ”السورية.نت” نادر الخليل  زميل  في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”

المصدر السورية.نت fikirturu


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا