200 يوم من حرب أوكرانيا

غصّت وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية بأخبار “النكسات” العسكرية الروسية (إذا شئنا استخدام المصطلح العربي للتخفيف من وطأة الهزيمة) في الساحة الأوكرانية، من خاركيف في الشمال إلى خيرسون في الجنوب. قد يكون من المبكر، وحتى من المبالغة، الحديث عن هزيمة عسكرية روسية كاملة في أوكرانيا، كما تفعل بعض وسائل الإعلام في بريطانيا والولايات المتحدة خصوصاً، إذ ما زالت روسيا قوة عسكرية كبرى، ولديها قدراتٌ لا يُستهان بها، بما في ذلك إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية إذا اضطرّت لذلك. لكن بعد 200 يوم على اندلاعها صار ممكناً الخروج باستنتاجات مهمة عن الحرب الكاشفة في أوكرانيا، إذ نجحت إدارة الرئيس بايدن، في ما يبدو، في استخدام أوكرانيا “طُعماً” لإعادة روسيا إلى حجمها الفعلي على الساحة الدولية، وتصفية حسابات قديمة مع الرئيس فلاديمير بوتين منذ “شبّ عن الطوق” في خطابه الشهير في ميونخ (2007) مروراً بغزوه جورجيا (2008) ثم القرم (2014) والتدخل العسكري في سورية (2015) ثم في ليبيا (2019-2020).

استغل بوتين، طوال عقدين، غرق الولايات المتحدة في “وحول” العالم الإسلامي لإعادة بناء قدرات روسيا ونفوذها في جوارها الإقليمي وعلى الساحة الدولية. لكن ما إن أنهت رسمياً عقدين من حروبها الكارثية في العالم الإسلامي، بانسحابها من أفغانستان في أغسطس/ آب 2021، حتى عادت واشنطن إلى التركيز على التحدّيات الاستراتيجية الفعلية التي غفلت عنها (روسيا والصين). ومن خلال توريطه في أوكرانيا، عبر إرسالها إشاراتٍ مضللة بأنّها لن تتدخّل لدعم كييف، تمكّنت واشنطن من تقويض كلّ ما بناه بوتين خلال عقدين بضربة واحدة، بعدما حوّلت أوكرانيا الى أفغانستان روسية جديدة. لم تمنع حرب الوكالة الأميركية في أوكرانيا الرئيس بوتين من تحقيق نصر سهل فحسب، بل باتت تمنّي النفس اليوم بإلحاق هزيمة به قد تقضي على حكمه، وقد تقود حتى إلى تفكيك بلاده، بعدما كشفت الحرب هشاشة قدرات روسيا العسكرية والاستخباراتية، وتخلفها تكنولوجياً مقارنة بحلف شمال الأطلسي، وعجزها عن تعويض خسائرها، إلى درجة الاستعانة بدول من وزن إيران وكوريا الشمالية. ومن خلال إطالة أمد الحرب وتكبيد روسيا مزيداً من الخسائر، تأمل واشنطن في إحداث شروخٍ في صفوف النخبة الحاكمة الروسية، مع احتمال أن يقود الشعور بالعجز والإهانة التي لحقت بالعسكرية الروسية إلى انقلاب يطيح بوتين والعصبة التي تحكم معه، وما آخر انقلاب عسكري في روسيا عنا ببعيد (أغسطس/ آب 1991 ضد غورباتشوف).

لا تقتصر الورطة الروسية في أوكرانيا على الفشل العسكري والاستخباراتي، بل تمتد أيضاً لتشمل تجريد موسكو من عوامل قوتها الاقتصادية. منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي وصف روسيا، تقليلاً من شأنها، بأنّها “قوة إقليمية لديها بعض النفط وسلاح نووي” والولايات المتحدة تسعى إلى تحييد قدرات روسيا الطاقوية. ورغم الإعجاب والودّ اللذين كان يكنّهما الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لبوتين، فإنّ الأول وضع نصب عينيه منع تشغيل خط نورد ستريم2 الذي كان يأمل الثاني من خلاله في تعزيز قبضته على أوروبا، عبر زيادة اعتمادها على روسيا في مجال الغاز. كان هذا الخط أول ضحايا حرب أوكرانيا، إذ أوقفت ألمانيا العمل به يوم 22 فبراير/ شباط 2022، أي قبل يومين من انطلاق الحرب، رداً على اعتراف بوتين باستقلال مقاطعتي لوغانتسك ودونيتسك في الدونباس. لم يقتصر نجاح واشنطن على وقف نورد ستريم2، بل تمكّنت، على مدى الشهور الستة الماضية، من دفع أوروبا إلى تقليص اعتمادها على النفط والغاز الروسيين بنسب كبيرة، حتى كان الثمن موت الأوروبيين برداً هذا الشتاء.

من خلال حرب أوكرانيا، ضربت واشنطن عدة عصافير بحجر واحد، فمن جهةٍ تنتزع من روسيا أداة ضغط استراتيجية على أوروبا. ومن جهة ثانية، تسرق منها أسواقها الأوروبية، إذ صارت الولايات المتحدة أحد أكبر مورّدي النفط والغاز إلى أوروبا (15% تقريباً)، وتحرم من جهة ثالثة بوتين من العوائد المالية التي تسمح له بتمويل آلته العسكرية وطموحاته على الساحة الدولية، كما تقوّض وضعه في الداخل الروسي. أما التأثير السيكولوجي للتنكيل بروسيا في نفس حلفائها (إيران، والصين وكوريا الشمالية .. إلخ)، فهو يأتي بمثابة مكسب إضافي “على البيعة” (bonus).

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا