29 دقيقة من المرح تستحق ألا تفوّتوها

هذه دعوة جادة وصادقة لمشاهدة محتوى رقمي، حسب التعبير الذي صار شائعاً في السنوات الأخيرة. وهي حقاً دعوة إلى مرحٍ مُستَحَق، خاصة في أيام لا تنقطع فيها أخبار القتل والتهجير والجوع، فضلاً عن انهيارات عديدة لبلدان المنطقة. هذا الاستهلال وما يليه هو بقصد التشجيع على المشاهدة ليس إلا، ويجب ألا يُنظر إليه بوصفه تلخيصاً كافياً عنها، وحتى قراءة النص الكامل للمحتوى لا تغني عن سماعه ومشاهدته معاً.

يوم الاثنين الفائت نُشرت مقابلة بشار الأسد مع الروسي فلاديمير سولوفيوف، ومن السهل تفهّم ألا يحظى ذلك اللقاء التلفزيوني باهتمام واسع، إعلامياً أو على وسائل التواصل الاجتماعي. فالفكرة السائدة هي أن الأسد لن يقول جديداً، ثم إن موقعه من الأحداث التي تعصف بالمنطقة مرآةٌ لموقعه من الأحداث الكبرى في سوريا نفسها. حتى من وجهة نظر الواقعين تحت سيطرته، لا يُنتظر من حديث للأسد ما هو جديد ومفيد، وقد سئموا انتظار ذلك الجديد الذي لا يأتي.

هذه دعوة لمشاهدة المقابلة، بصرف النظر عن تلك التحفظات. لنقل، بصياغة درَجَ عليها المثقفون يوماً، أنها دعوة من خارج الصندوق. فهي لا تعِد بالجديد على صعيد السياسة الإجرائي، كما يُنتظر عادة من قائد سياسي، ولا تدّعي اكتشاف ما لم ينتبه إليه آخرون على هذا الصعيد، ولا تزعم أن هناك ما يجب استنطاقه بين السطور.

هي، ببساطة وصدق، دعوة إلى المرح. وليس في هذا شيء من التجنّي على المقابلة، فالصحافي يضحك في أثنائها وكذلك يفعل الأسد بكل أريحية، وعلى نحو نستطيع تفسيره بأنه دعوة منهما لمشاركتهما الضحك. وبالطبع ليس مطلوباً من محتوى يتضمن روح الدعابة أن يضحك مقدِّموه طوال الوقت، أو أن يقدّموا مادة فيها تهريج مبتذل. فابتسامة الأسد تبدأ بالظهور مع إجابته على السؤال الثالث، بعد سؤالين عن تطورات الفلسطيني منذ 7 أكتوبر، السؤال: لماذا تصمت الدول؟ ولماذا لا تتخذ الدول العربية خطوات منصفة وضرورية لوقف إراقة الدماء والذبح في غزة؟ أتى السؤال بعد مقدمة من الصحافي عن وجود تصريحات فقط بلا جدوى من تركيا ودول عربية، مع التنويه بأنصار الله-الحوثيين الذين يحاولون التأثير. يجيب الأسد: هذه التقاليد العربية في السياسة على الأقل خلال 40 عاماً. وبعد شرح عن تأثير الغرب في قرارات بعض الدول يقول: لا نستطيع كأناسٍ نقف مع الفلسطينيين أن نأمل كثيراً من الوضع العربي.

في أثناء الإجابة حرّك سولوفيوف يده بطريقة مسرحية يُفهم منها أنه يثني على كلام الأسد، وكان قد أتى بحركة شبيهة في إجابة سابقة وكأنه يشاركه الكلام. أي أن المتحاورَيْن يتعاملان بأريحية تتجاوز البروتوكول المعتاد بين رئيس وصحافي، ليكون ما بينهما أشبه بمحاورة بين شخصين، واحد منهما أجاب للتو من موقع الناس الذين يقفون مع الفلسطينيين لا من موقع الرئيس، أما الثاني فاستهل المقابلة بنكتة قائلاً: إنه لمن دواعي فخري أن أكون الآن في دمشق، على هذه الأرض العظيمة، وفي هذا البلد العظيم الذي اختار مصيره بحرية.

وتابع: “الغرب يكذب دائماً، ونحن نرى كيف يصور ما يحدث الآن في أوكرانيا على أنها حرب مقدسة، فالشر كله يقف ضدنا هناك، والشر هو كل ما يعارض ثقافتنا وديننا. وفي هذا السياق، في عام 2017 اتهمكم الغرب الكاذب باستعمال الأسلحة الكيماوية. وعندما بدأت العملية الروسية الخاصة حاول الغرب أن يخرق المفاوضات في إسطنبول، واتهم روسيا بجرائم مخيفة في بوتشها. شعبنا لا يصدق هذا. كذلك الشعب السوري لا يصدق أكاذيب الغرب، ويخرج ليدعمكم. كذلك شعبنا يدعم قائدنا العام، فكيف نستطيع مقاومة الكذب الذي يأتي من كل مكان؟ وكيف نستطيع أن نحافظ على شعورنا الداخلي بالحقيقة والعدالة؟”

الفقرة السابقة بأكملها هي للصحافي سولوفيوف، وهي نموذج ليس إلا عن مداخلاته في المقابلة. وإذ نستخدم كلمة “مداخلة” فللتأكيد مرة ثانية على كون المقابلة تتخطى البروتوكول، لتُنشئ محتوى مشتركاً يتوخّى تقديم المتعة والفائدة للجمهور أكثر من أي اعتبار آخر. في هذه الصناعة، ليس مهماً ما إذا كان سولوفيوف مقتنعاً حقاً بما يقول، فالأهم أنه يقوله بجدية، أي أنه يؤدي دوره على أتمّ وجه. وليس مهماً تالياً أن يستكمل الأسد ما ورد في الفقرة بالقول أن شعوب الغرب ليست سيئة، لكنها جاهلة ومُغرَّر بها من تحالف الإعلام مع السياسيين. بينما، حسب قوله: في مناطقنا الأمور مختلفة، أولاً الحقيقة هامة جداً، نشر الحقيقة. ثانياً الشفافية، الشفافية في طرح المواضيع من قبل السياسيين.. العلاقة المباشرة بين الحكومات والشعوب… إلخ.

تنقص الكلام السابق فقط لمسةٌ من قبيل الإشارة إلى أن الصلة بين الحكومات المعنية والشعوب هي صلة دم. أيضاً أثناء حديث الأسد، تذهب الكاميرا إلى وجه سولوفيوف الذي يعبّر بطريقة مسرحية عن الدهشة والموافقة معاً، ما يلفت الانتباه إلى دور الكاميرا الخارج عن مألوف البروتوكول أيضاً. على أية حال، يُساء فهم هذا المحتوى إذا أُخذ أو نوقش بجدية، فالغاية منه ليست إقناع الجمهور بالحجة والبرهان. إنه أداءٌ أولاً وأخيراً، وحتى إذا ضحك الجمهور مطوّلاً من المضمون فهذا يُسجّل كنجاح للأداء وصانعيه.

من المرجّح أننا إذا تلقّينا ذلك كله بمرح فسنكون جاهزين في منتصف التسجيل لنضحك مع الأسد الذي ضحك بصوت عالٍ ومع شريكه الذي ضحك بوجهه وجسده، عندما ينهي الأول كلامه عن الانتخابات الروسية الذي يدعم به إعادة انتخاب بوتين، ليقول في النهاية مازحاً: أنا أعبّر عن رأي شخصي، لكي لا يقول أحد أنني أتدخل أو أحدّد نيابة عن الشعب الروسي. الضحكة المشتركة ستعود في ذروة جديدة مع قول بشار أن الرؤساء الأمريكيين بمثابة مدراء تنفيذيين للشركات، فإذا تحدثت مع الرئيس سوف يعود لمجلس الإدارة، أما الرؤساء الأوروبيون فهم بمثابة مدراء فرعيين. والكلام تعقيباً على مداخلة لسولوفيوف جاء فيها:

(أنتم تتحدثون عن إقامة حوار جديد، مع مَن في الغرب نستطيع أن نتحاور؟ هل هناك سياسيون يجدر بنا التحدث إليهم في الغرب؟ لدينا “بايدن” الذي لا يتذكر ما هو اسمه، وهناك ترامب الذي يمزّقه حقده على إيران، ولدينا أوروبيون لا يملكون أي مصالح وطنية، فهم تنكّروا للغتهم الأم مثل بوريل شولتس وأورسولا فوندرلاين، يتحدثان بالإنكليزية علناً أكثر من تحدثهم باللغتين الألمانية والإسبانية. ولدينا بوريس جونسون الذي يكذب بخصوص كل شيء، ولا يحسن ترتيب شيء حتى تسريحة شعره. وهناك ماكرون الذي لا يستطيع حتى الآن أن يحدد مَن هو؛ نصف ديغول وثلث نابليون. فمع مَن سنتحدث؟ مَن هو مستعد لإعطاء وعد والالتزام به).

منذ منتصف التسجيل صارت الحوارية أكثر أريحية، وربما يكون هذا التصاعد مدبَّراً، ففي ذروة لاحقة سيمازح الصحفي الأسد بالسؤال عن تجربته مع العقوبات الغربية عليه، ليستفيد منه بوتين. فيضحكان، وفي غضون ضحكته يقول الأسد: الغرب مضحك وغبي أحياناً. ولعل هذه النقلة تقول للجمهور على نحو غير مباشر أن يأخذ التسجيل كله بمرح، وأن ينظر إليه كعرض show في زمن “صانعي المحتوى”.

على قلّة التغطية الإعلامية، نال حديث الأسد بعض الانتباه بالمقارنة مع مداخلات سولوفيوف التي أُهملت بالنظر إليها على نحو تقليدي كأنها مجرّد أسئلة صحافي لا غير، في حين أنها تستحق انتباهاً جيداً. وتستحق مع التسجيل بأكمله ألا “نسيء” إليه بمزيد من الاختزال، فالمثَل يقول: مَن سمع ليس كمَنْ رأى. هي، كما جاء في الاستهلال، دعوة إلى مشاهدة 29 دقيقة من المرح، وقد لا يكون اعتباطياً أن المقابلة انتهت عند هذا الرقم، لا مع تمام الدقيقة 30، فللرقم 9 في مرتبة الآحاد جاذبية تسويقية عالمياً. على صعيد لا يبدو ذا صلة مباشرة بالتسجيل، نشر الممثل السوري مصطفى الخاني قبل أسبوع على حسابه في فيسبوك صورتين تجمعانه ببشار الأسد، ويرتديان فيهما زيّاً موحداً، متفقاً عليه بالتأكيد. إنه زمن صانعي المحتوى.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا