أكثر من مجرد فيروس

لعبت الأوبئة والجائحات على مر التاريخ دوراً لا يقل أهميةً عن الحروب والصراعات، في تغيير أحوال الدول وتبديل أوضاع المجتمعات. ولعل أبرز مثالين تجرى الإشارة إليهما عادة في هذا السياق جائحة “الموت الأسود” أو الطاعون الذي ضرب أوروبا وشرق المتوسط في منتصف القرن الرابع عشر (1347-1351)، وأدى الى تحولات كبيرة على مستوى الأوضاع الإنسانية العامة فيهما. إذ قضى المرض على نصف سكان أوروبا (قدّره مؤرخون في ذلك الوقت بـ 80 مليون نسمة)، واستغرق الأمر نحو قرنين حتى استعادت القارّة عدد سكانها إلى المستوى الذي كان عليه قبل المرض. وترى المؤرّخة الأميركية باربرا توتشمان (1912 – 1989) في كتابها “القرن 14 الكارثي” (The Calamitous Fourteenth Century) أن المرض لعب دوراً مهمّاً في انطلاق عصر النهضة من إيطاليا تحديداً، إذ أدّت نسب الموت المرتفعة في فلورانس إلى إضعاف موقف الإقطاع وملاك الأرض في مقابل توسع الطبقة الوسطى، وزيادة أهمية اليد العاملة بسبب ندرتها وارتفاع أجورها. كما انخفضت أسعار المحاصيل الزراعية بشدة، لعدم وجود مستهلكين، وانهارت أسعار الأراضي الزراعية، وحصل تغير كبير في طبيعة ملكيتها. ومن تداعيات الوباء أيضاً ارتفاع مستوى الحريات الفكرية، وتدهور سلطة الكنيسة وصعود التفكير العقلاني. ويعتقد مؤرّخون أيضاً أن المرض بقدر ما ضرب هشّم قوة الحكم العربي في الأندلس، وساهم في إنهائه مع نهاية القرن التالي، فقد أدّى، في المقابل، إلى صعود الدولة العثمانية وتوسعها في شرق أوروبا وجنوبها الشرقي.
المثال الثاني الذي يُضرب للدلالة على حجم التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تجلبه الجائحات هو “الإنفلونزا الإسبانية” التي ضربت العالم عام 1918، وسرّعت في إنهاء الحرب العالمية الأولى، إذ أدت في عامها الأول فقط إلى مقتل نحو 50 مليون إنسان، كثيرون منهم في أوروبا. ولمّا كانت فئة الشباب الأكثر تأثراً بالمرض، لم يعد لدى الدول المتحاربة القدرة على التجنيد. ويذكر المؤرّخون أن الهند وحدها (كانت خزان الجيوش البريطانية) فقدت 18 مليون إنسان بسبب الوباء الذي سرّع أيضاً في التوصل إلى اتفاق فرساي للسلام عام 1919، ذلك أن الإنفلونزا ضربت وفوداً مفاوضة في مؤتمر باريس، ما دفعها إلى الإسراع في إعلان اتفاق السلام. ولكن الوباء أدّى، من جهة أخرى، إلى شل الاقتصاد العالمي، وإدخاله في حالة من الركود، بدل الانتعاش الذي يعقب الحروب عادة بسبب عمليات إعادة الإعمار. وقد زادت الأمر سوءاً أزمة 1929 المالية، ما ساهم في صعود النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية بعد ذلك بعقد.
ستتم على الأرجح الإشارة إلى ما يجري في عالمنا اليوم باعتباره مثالاً إضافياً عن دور الجائحات في تغيير أحوال العالم، فما أن ينحسر انتشار فيروس كورونا، وتهدأ المخاوف، حتى يتكشف عمق التغييرات التي تركها على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. أبرز ضحايا الفيروس ستكون العولمة والتجارة الحرّة التي تتعرض أصلاً لضغوط شديدة، بسبب سياسات الرئيس الأميركي ترامب، لكنها قد تتلقى ضربةً قاصمةً هذه المرة، بسبب المخاوف التي تركها الفيروس بخصوص انقطاع سلاسل الإمدادات، والشعور بالارتهان لدول ومنتجات تأتي من الخارج. سوف تبحث أكثر الدول في المرحلة المقبلة عن أمنها الصناعي والسلعي والغذائي الخاص، وسوف تنتهي، بناءً عليه، سياسات التكامل الاقتصادي، وتتعرّض التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية لهزّات كبرى، وتعود لتعلو الدولة الوطنية والأيديولوجيا القومية. يزيد الوباء أيضاً من مستوى الممارسات العنصرية بين الشعوب والمجتمعات، حيث يتنامى التقوقع على الذات، وتتعالى صيحات إغلاق الحدود ومنع تسرب المهاجرين والأجانب، وحتى السياح، في مواجهة أخطارٍ تأتي من وراء الحدود، حتى ضمن التكتل الإقليمي الواحد، فتغلق ألمانيا حدودها في وجه النمسا وفرنسا وسويسرا، وتمنع فرنسا تصدير الأقنعة الطبية إلى أوروبا.
بالتأكيد، سيكون بعض هذه الإجراءات مؤقتاً، دافعه الخوف الغريزي وإعلاء المصلحة الفردية، لكن بعضها الآخر سيكون أكثر عمقاً وديمومة، وقد نكون فعلاً على وشك تغييراتٍ من النوع التاريخي، يمتد تأثيرها إلى موازين القوى بين الدول وداخلها، تقود بدورها إلى إنهاء أزمات مزمنة وإطلاق أخرى، وسقوط أنظمة وصعود أخرى، إنه بالتأكيد أكثر من مجرد فيروس.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا