الانتخابات التركية..صراع بين محورين جذورهما تمتد إلى مئة عام

جرت في الرابع عشر من شهر أيار الجاري، انتخابات الرئاسة والبرلمان في تركيا، هذه الانتخابات، لم تجر على أساس برامج خدمية، يمكن أن يقدمها هذا المحور أو ذاك، بل أنها جرت على أساس عميق من الصراع بين محورين سياسيين، يرتكز كل محور فيهما على رؤية إيديولوجية تختلف عن المحور الآخر.

المحور الأول هو  استعادة أمجاد تاريخية، عاشتها تركيا ضمن دولة الخلافة العثمانية، هذه الاستعادة ترتكز بالدرجة الأولى على قيمٍ إسلامية، لا تقبل بغير التفرّد النابع من صيرورة الخلافة التي امتدت مئات السنين.

هذا المحور، عمل منذ صعوده الأول في عهد نجم الدين أربكان على وضع تركيا ضمن مجالها الحيوي الطبيعي والتاريخي، وهذا يعني انفكاكاً سياسياً وفكرياً عن المسعى الذي يريد تحويل تركيا إلى واحة غربية، متجاهلاً تاريخها، ومعتقدات شعبها، ودرجة تطور مجتمعها، على صعيد البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

محاولة تغريب تركيا لم تنجح على مستوى البنية خلال مرحلة ما بعد الدولة العثمانية، لأن التحديث الذي جرى في عهد كمال أتاتورك لامس فحسب الشكل الخارجي للمجتمع، مثل تغيير نمط الكتابة، ومحاولة فرض نمط تفكير جديد خارج السياق الطبيعي للوعي  السائد آنذاك، حيث بقيت البنية الاجتماعية التركية بأنساقها المكونة لها في حالة انفصال بين جوهرها والشكل المفروض عليها.

المحور الثاني هو محور نقل تركيا من عالمها الطبيعي (الإسلامي) إلى عالمٍ جديد مركزه الغرب الأوربي ولاحقاً الأمريكي، هذا النقل، لم يخدم تطور تركيا على صعد بنائها الاقتصادي المستقل نسبياً، وبالتالي، لم يستطع هذا المحور تطوير بنى الاقتصاد التركي المنتجة، لأنه ربط الاقتصاد التركي بدول الغرب، والذي لا يقبل منافساً حقيقياً له.

هذان المحوران، هما من تنافسا بشدّة بأسلوب ديمقراطي شفّاف إلى درجة كبيرة في الانتخابات التركية، التي جرت في الرابع عشر من أيار الجاري.

 المحور الأول، وهو “تحالف الجمهور” إنما يريد تطوير البنية الاقتصادية والاجتماعية التركية، ليجعل منها دولة متقدمة تنافس الدول التي تضمها مجموعة العشرين الاقتصادية، وهذا أمرٌ يقلق الغرب بصورة عامة، ويدفع هذا الغرب إلى محاولة تثبيط هذا الاتجاه عبر محاربته بطرق مختلفة وأساليب متنوعة.

المحور الأول الذي يقوده حزب (العدالة والتنمية التركي)، استطاع خلال 21 سنة لحكمه البلاد، من جعل تركيا دولة متقدمة على صعد اقتصادية وعسكرية واجتماعية وعلمية، فقبل تسلم هذا الحزب الحكم عام 2002، كانت تركيا مديونة للبنك الدولي، وحجم ناتجها المحلي قرابة 380 مليار دولار سنوياً.

بعد عشرين عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية أصبح الناتج المحلي للبلاد، يبلغ قرابة تريليون دولار سنوياً، وفق بيانات المجموعة الاقتصادية الدولية، وهذا انعكس عبر تطوير البنى الاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، والثقافية. إذ حافظت تركيا على معدل نموٍ كبير، متوسطه العام أكثر من خمسة بالمئة، وهذا ساعدها في تطوير صناعاتها المختلفة وتطوير قطاعها الزراعي، والخدمي، والصحي، والعلمي وغير ذلك.

هذه الاستقلالية أزعجت دولاً غربية، ودفعتها لتشجيع القوى السياسية، التي ترى فيها أكثر قرباً لها، دون الالتفات إلى بنية وثقافة ومعتقدات الشعب التركي، ولهذا، وباعتبار عام 2023 هو عام تحرر تركيا من  “اتفاقية لوزان”، فالقوى الخارجية، التي لا تريد أن تستعيد تركيا دورها السياسي الدولي الفاعل، عملت على قطع طريق تطور تركيا عبر خلق أزمات متعددة لها مثل محاربة الليرة التركية، أو دعم القوى الانفصالية التي يمثلها حزب العمال الكردستاني، الذي أسسه عبد الله أوجلان، السجين بتهم محاربة الدولة التركية وتهديد أمنها القومي.

محور تحالف الجمهور يريد بناء دولة تركية متطورة وقوية، أما محور تحالف الأمة فهو تحالف “الطاولة السداسية”، أي تحالف ستة أحزب معارضة، والذي همّه الأول هزيمة محور الجمهور، الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان.

رأسا المحوران، حزب العدالة والتنمية، وحزب الشعب الجمهوري، هذان الحزبان في جوهرهما الفكري والإيديولوجي يمثلان النقيضان الفكريان والسياسيان لبعضهما على صعيد الرؤية الاستراتيجية لتركيا، وهو أمر يعيد طرح السؤال الرئيسي الذي تمّ طرحه قبل قرابة مئة عام.

السؤال المطروح: من هي تركيا؟ هل هي بلد مسلم يريد ألا يكون ضمن سياسة الالتحاق والتبعية للغرب؟ أم أنها بلد لن تجد نفسها في عصرنا الحالي دون علاقات وثقة مع الغرب عموماً؟

سؤال جوهري تتمحور حوله عملية التنافس الانتخابي في تركيا. فمن الذي سينجح في هذه الانتخابات؟ هل يريد الأتراك أن تكون بلادهم قوة عظمى ذات هيبة عالمياً، سيما، وأنها دولةٌ منتجة للأسلحة المبتكرة، مثل طائرة البيرقدار وأخواتها؟.

أم أن الأتراك يريدون حياة تشبه حياة الغرب، في وقت هم حصيلة تطور تاريخي، واقتصادي، واجتماعي، يختلف جوهرياً عن السياق التاريخي لمجتمعات الغرب؟

إنها انتخابات التنافس على نهجين متناقضين ومختلفين، ولكن، يبقى الشعب التركي هو من يختار من يحكمه، وأنه يدرك بصورة عامة مزايا كل محور من المحورين المتنافسين.


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا