الشمال السوري المُنهك..تفاقم الكارثة ودروس الزلزال

تجرّع السوريون خلال السنوات الماضية طرقاً عدة للعذابات؛ من الموت بالرصاص والبراميل المتفجرة، إلى الموت بالتعذيب في أقبية الأفرع الأمنية، وصولاً إلى الموت جوعاً من الحصار واختناقاً من الغازات الكيماوية، ثم الموت غرقاً في البحر وقهراً من فقدان الأحبة والتعب النفسي، وأخيراً جاء الزلزال ليُضاف إلى قائمة الموت.

خلال دقيقة ونصف، غيّر الزلزال من أحوال الناس، وأضحى الناجون من الزلزال (أغنياءً وفقراء) في ذات الخيمة، ولسان حالهم ليتنا كنا في خيمة تقي أطفالنا من هزات الأرض والموت تحت سقف البيت.

لوهلة صار أصحاب الخيام التي لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف محسودين من أصحاب المنازل الاسمنتية التي وقعت على رؤوسهم.

سُويّت عشرات المنازل والأبنية بالأرض إثر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية في 6 شباط 2023، وخلّف ما يزيد عن 5 آلاف شهيد وآلاف المصابين في شمال غرب سورية وحدها. وهو ليس المصاب الأول إذ يسبقه مصاب قابعٌ على صدورهم منذ آذار 2011 عند إطلاق صرخات الحرية وسيلان الدماء في الشوارع.

حجم ما فقده السوريون في هذه الدقيقة والنصف، يعادل معنوياً ما فقدوه خلال السنوات الأحد عشر الماضية، وقد يقف الشعب دقيقتي صمت يُرفع فيها أذان المساجد وتُقرع أجراس الكنائس في يوم اندلاع الثورة ويوم 6 شباط 2023 إجلالاً لضحايا الثورة والزلزال.

وعلى هول الفاجعة، كشف الزلزال عن تهافت السوريين على بعضهم البعض في كل أرجاء المعمورة، وتكاتفهم في هذه الأوقات الصعبة، إذ تسمّر الملايين على التلفاز والهاتف للاطمئنان على أهلهم وانتظار بحّة صوتٍ قد تصدر من تحت الأنقاض.

سرعان ما أظهرت المنظمات العاملة على الأرض وأبرزها الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) استجابةً سريعةً للكارثة، لإنقاذ الأحياء تحت المنازل المنهارة وإسعاف الجرحى وإزالة الأنقاض ومساعدة المتضررين والنازحين، وحشدت المجالس المحلية والمنظمات ما توفر لديها من موارد ومعدات لفريق الدفاع المدني من وقود وآليات ثقيلة وما شابه لإعانتهم في ظل خذلان المجتمع الدولي وعدم تقديم المساعدة.

وأدارت المجالس المحلية جهود الإنقاذ عبر تنسيق أعمال المنظمات وضمان عدم تضارب أو تكرار المساعدات في المخيمات، وأصدرت بعض المجالس المحلية نشرات دورية لأعداد الوفيات والمصابين وإحصائيات للمباني المنهارة والمتضررة فضلاً عن الاحتياجات العاجلة للنازحين. في حين وُجّهت انتقادات للمجالس المحلية حول طريقة البناء المعتمدة في منطقة تعتبر نشطة زلزالياً، وآلية إصدار تراخيص بناء، والإشراف الهندسي على مخططات البناء والرقابة على المواد الأولية أثناء عملية التنفيذ.

هناك مقولةٌ منتشرةٌ لدى علماء الزلازل، مفادها أن “المباني هي التي تقتل السكان وليس الزلازل”، وقد دلّلت المقاطع الآتية للمباني المنهارة في ريف حلب وإدلب وآراء الخبراء والمهندسين إلى بروز علامات استفهام عديدة حول عملية البناء والمواد المستخدمة، من حيث نقص استخدام الحديد وصلابة الاسمنت وعدم جهوزية البناء لاستقبال هزات أرضية، ما جعلها عُرضة للانهيار على رؤوس أصحابها.

وسارعت المنظمات الإغاثية إلى تجهيز مراكز إيواء مؤقت وخيام للعوائل وتأمين الطعام والشراب والاحتياجات الإنسانية ومداواة المصابين، وتصدر فريق الدفاع المدني عملية الإنقاذ وإزالة الأنقاض، ووحدت بعض المنظمات جهودها ضد الكارثة، كما حصل مع “سامز” والدفاع المدني والمنتدى السوري، على أن هذه التجربة يمكن الاستفادة منها وتوسيعها لتضم منظمات أخرى في المنطقة خلال الفترة القادمة.

واعتمدت المنظمات طريقة الدوائر في العمل لتوزيع العمل في كامل المناطق وحفظاً للجهد ومنعاً للتكرار، بحيث تتولى كل منظمة مناطق محددة لتوفير خيام وتأمين مياه الشرب والغذاء والوقود والاحتياجات الأساسية الأخرى للنازحين والمتضررين. في حين يُؤخذ على المنظمات العمل بدون تنسيق مالي حيث طلبت كل منظمة تبرعات مالية على حِدى وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الإعلانات من أجل التبرع ومساعدة المتضررين.

القاسم المشترك الذي تحقق في كل ما سبق هو تكاتف السوريين ضد الكارثة في وحدة الألم و”الفزعة” والتمويل والاستجابة السريعة والعمل، وهنا لا بد من استثمار هذه الحالة في الفترة القادمة وتعزيز نقاط القوة وتذليل العقبات للمحافظة على وحدة السوريين ضد المُصابين؛ النظام والزلزال.

ومن هذا المنطلق سيكون من المجدي في الفترة الحالية، إيقاف المجالس المحلية منح تراخيص بناء سواء لغرض تجاري أو سكني، والعمل على تقييم المنطقة زلزالياً بمساندة فريق من المهندسين والخبراء المختصين من حيث ماهية البناء ومواصفاته التي يجب أن يكون عليها، ووضع قائمة بالمعايير التي تضبط عملية البناء لا يمكن الحياد عنها إطلاقاً وإلزام الإشراف الهندسي على البناء، فضلاً عن إيجاد آلية لمراقبة عملية البناء وقطع أوجه الفساد فيها وفرض عقوبات صارمة في حال مخالفة تلك المعايير.

على الطرف الآخر بات من الضروري أن تفكر المنظمات بالعمل معاً في أوقات التحديات الكبرى، والتخندق في بوتقة عملٍ واحدة، وتأسيس ما يشبه مؤسسة “آفاد” في تركيا لإدارة عمليات الكوارث من غرفة مركزية لديها ما يكفي من الموارد المادية والمالية، ولعلّ الدفاع المدني هم خير من يمثل هذا الدور، والتفكير بإطلاق استراتيجية وطنية لإعادة إعمار ما دمره الزلزال والحرب عبر تنسيق الجهود والقنوات المالية.

أخيراً، على الرغم من مرارة الحدث وحجم الكارثة الوطنية والخسارة البشرية قبل المادية، إلا أن هاجس البقاء والنجاح في هذا التحدي يجب أن يكون حافزاً للمؤسسات، على أنه ليس مطلوباً من الإنسان تجنب حدوث الكارثة الطبيعية أياً كان شكلها وشدتها، بل تقليل عدد الضحايا ضمن ما وفره العلم وراكمته الخبرة، وتسريع الاستجابة ما بعد الكارثة والاستعداد لها من خلال التخطيط السليم والمسوؤل، أما السكوت عن الخطأ وتكراره فهو عين الكارثة والظلم.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا