خطوات الأسد “الإصلاحية” خلال الحرب على غزّة

فشلت محاولات المجتمع الدولي في إلزام النظام السوري بتنفيذ بنود بناء الثقة، للوصول إلى تسوية ممكنة بين الأطراف السورية المتصارعة (النظام وشرائح المعارضة على مستوياتها المختلفة والمتخالفة)، التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة منذ بيان جنيف (2012)، حتى قرار مجلس الأمن 2254 في 2015، الذي وضع فصلاً منفصلاً تحت عنوان بنود بناء الثقة. وبالمثل، باءت الجهود العربية بالفشل، أيضاً، في تنفيذ مشروع خطوة مقابل خطوة الذي اقترحته عمّان عام 2021،  ولم تستطع تحقيق أي تقدّم على مستوى الحلّ السياسي. فالنظام، على الرغم من قناعته بأنه لم يعد المتحكّم الوحيد بسورية، إلا أنه، بوجود داعميه الدوليين (روسيا وإيران)، لا يزال قادراً على المناورة وتقزيم حصّة الشركاء المحليين من المعارضة (المفترضين)، لحساب توسيع الشراكة الخارجية وتنويعها من الروسي والإيراني والأميركي والعربي.

وبعيداً عن تناول ما يفعله النظام السوري داخلياً من وجهة نظر المعارضة، أنها “بروباغندا” أو عملية إلهاء للداخل السوري، في ظل الصمت الرسمي عما يحدُث من إبادة للفلسطينيين في غزّة، فإن ما يحدث في سورية من عملية تغيير، رغم بطء حركتها، إلا أنها توجه رسائل مركزة إلى الداخل والخارج، ومنها أن عملية الإصلاح المطلوبة دولياً تأخذ مساراتها الفعلية، وهذه المسارات، بغموضها، تحرّك شهية الراغبين في التقاطها (إيجابياً) كالدول العربية المنفتحة عليه، التي تبحث عمّا يبرّر انفتاحها، وهي حتما بإرادة الداعمين له، كذلك يمكن استخدامها (سلبياً) بتأكيد قصورها، وعدم كفايتها، والمطالبة بتوسيعها، أو تسريعها. وحتى هذه السلبية يحتاجها النظام السوري لفتح آفاق جديدة للتفاوض على أسس جديدة، ووفق حصصٍ غير متساوية مع معارضته التي يسمّيها “خارجية”.

وحيث إن النظام يدرك أنه في ظل المتغيرات الجديدة، ليس فقط سورياً، وإنما عالمياً، فإن قواعد ممارسة السياسة الأحادية أو الانفرادية، التي انتهجها منذ ما يقرب من ستة عقود (ولاية الأب حافظ الأسد والابن بشّار) لم تعد قابلة للحياة، ما يفرض عليه التغيير والاندماج مع متطلبات الإرادة الدولية، التي تدحرجت نزولاً من الحديث منذ 12 عاماً عن عدم شرعية الرئيس، وأن أيامه باتت معدودة، إلى الإقرار بعدم الرغبة في إسقاطه مقابل شروط، منها تغيير سلوكه، وفضّ ارتباطه بإيران، والتزام تسوية سياسية يكون هو أحد طرفيها الفاعلين وفقاً للقرار 2254، وصولاً إلى القبول أو الصمت عن عمليات التطبيع العربي معه، ما يعني أنه استثمر فعلياً في طول أمد حربه لجهة تغيير “المزاج” الدولي تجاهه، بدرجاتٍ باتت مقبولة منه، وهذا ما يستدعي منه خطواتٍ عملية تنهي حالة المخاصمة الدولية معه (كما حال الدول العربية)، وتمهّد لتسوية على الطريقة الأسدية، وعلى مبدأ “ما لا يُدرك كله فلا يترك جله”.

وفق ما تقدّم، يمكن قراءة ما يحدُث في سورية أنه يعتبرها خطوات أولية في عملية بناء الثقة باتجاهين: أولهما مع مجتمعه المتجانس من جهة، الذي يعاني من الفساد والبيروقراطية وسوء المعيشة، والبطالة، وتداخل صلاحيات الوزارات مع الأجهزة الأمنية وتولي الفاسدين وغير المؤهلين للمناصب واحتكار ذوي القربي والوساطات للفعاليات الحيوية وغيرها، والإجراءات رغم بساطتها ومحدوديتها في تحسين شروط الإنتاج المحلي والإصلاح الإداري، إلا أنه يريدها بمثابة المؤشّر على قدرته على إحداث التغيير ذاتياً، الذي ستلحقه خطواتٌ إضافية تتمثل بتحقيق اللامركزية الإدارية وإصلاح العمل البرلماني وتوزيع صلاحيات الرئيس بما يتناسب والطرح الأميركي عن الحل السياسي في سورية، وبما لا يتعارض مع بقاء الأسد الطرف الأساسي في الحكم.

والاتجاه الثاني وجهته إلى الغرب والعرب، وبما يتناسب ومنطقه في الاستثمار “حتى في الخراب”، أو ما يمكن تسميته اقتناص فرصة للنجاة من طوق الحصار المفروض عليه من الغرب، والمحاصرة به أيضاً الدول العربية الراغبة في انتشاله من زنزانة العزلة، وعجزها عن ذلك بسبب العقوبات، وقانون قيصر، حيث تتعدّى انعكاساتهما من النظام إلى من يمدّ له طوق النجاة، لتكون أول علامات تغيير السلوك خارجياً التزامه التحذيرات الأميركية من الدخول على خطّ الحرب الإسرائيلية على غزّة، إعلامياً أو عسكرياً، والتزامه الصمت السياسي والإعلامي من جهة، وتكميم أفواه السوريين من جهة مقابلة، وذلك بمنع التظاهر الشعبي، والتفاعل مع القضية الفلسطينية التي تعدّ من أولويات السوريين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية المحلية، مع النظام أو ضده، أو حتى من فئة الصامتين تجاه الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، ولا تزال مفاعيلها تتمدد.

مدّ الأسد بسلوكه الجديد تجاه القضية الفلسطينية يده للولايات المتحدة والغرب الداعم لإسرائيل (سواء كان ادّعاؤه أنه طرف في محور المقاومة صادقاً أو كاذباً) ما يجعله ينتظر مكافأة مُجزية، مقابل تحييده لاعباً في الصراع الإسرائيلي – العربي، الذي اختصره اليوم كما غيرُه من العرب بالصراع الإسرائيلي مع حركة حماس، لتبرير الانكفاء عن ممارسة أي دور ضاغط على المجتمع الدولي، والاكتفاء بمبادراتٍ لم تأخذها إسرائيل على محمل الدخول العربي على خط الصراع معها، بل استهانت بها واعتبرتها مجرّد “بروباغندا” تتساوى مع ما كان قائماً منذ نهاية حرب تشرين (1973).

وفي وقتٍ يأخذ فيه النظام السوري خطوة إلى الأمام لاستثمار قرار عودته إلى جامعة الدول العربية (مايو/ أيار 2023)، ومن خلال اندماجه مع الفعاليات العربية المتنوّعة، وحضور وفوده اجتماعاتها في كل الدول العربية، وبعض الدول الأوروبية، ينحسر حضور المعارضة السورية، ويتقلص دعمها من دولة بعد أخرى، حتى تكاد تبدو كأنها غير موجودة.

وبموضوعية شديدة، كما أنه لا يمكن تحميل كيانات المعارضة “وحدها” أسباب تضعضع مكانتها وشرعيتها التي قاربت أن توازي النظام بتمثيل الدولة السورية بين عامي 2012-2018، غير أنه أيضاً لا يمكن تجاهل تراخيها في صناعة رؤية واحدة تحقق طموح كل السوريين، وانجرارها وراء تمثل مواقف الدول الداعمة لها على حساب المشروع الوطني السوري الجامع لمختلف القوميات السورية من عرب وكرد وشركس وأرمن وتركمان، الأمر الذي استفاد منه النظام في محاججة المجتمع الدولي لهدر فرص التسوية المتاحة، وفق مفاوضات جنيف عشر سنوات خلت، استطاع خلالها تشتيت الدعم العربي والغربي للمعارضة، ومطالب الثورة المحقّة في بناء منظومة حكم ديمقراطي لا طائفي.

لقد استطاع النظام السوري تحويل مجريات الكارثة السورية إلى حدثٍ مكرّر يومياً، ملّت منه الأنظمة الغربية والعربية، وتعاملت معه كمسلسل مملّ، تارة تتفاعل مع ضحاياه ببعد سياسي، وتارة ببعد إنساني، وتارة تتجاهله بفعل أحداث جديدة وحروب مستجدّة، وكوارث حديثة، قد لا يكون آخرها الحرب الوحشية الإسرائيلية على غزّة، لكنها حتماً ستكون هذه الحرب هي التي تضع محدّدات جديدة لشرق أوسط جديد، قد يكون النظام السوري أحد أبرز معالمه، أو هو الصورة التي ترغبها إسرائيل للأنظمة العربية، لا حرّيات، لا تنمية، لا سيادة، وربما لا حدود آمنة.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا