ماذا بعد سقوط أركان التطبيع العربي مع نظام الأسد؟

تعامل السوريون مع التطبيع بين الدول العربية والنظام السوري بواقعية، من دون تحميله أي آمال على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، فهو منذ الكشف عن أولى خطواته لم يكن يهدف إلى تحسين واقع السوريين داخل بلادهم أو خارجها. وبدا من الواضح أنه قرار سلطوي لبعض الأنظمة العربية، شأن التطبيع العربي مع إسرائيل، فكلتا “العمليتين” تمتا في معزل تام عن دراسة عائديتهما على الشعوب العربية عامة، والشعبين، السوري والفلسطيني، على وجه التحديد، وقضاياهم المصيرية. وبالتالي، البحث عن انعكاسات العودة العربية إلى النظام السوري على السوريين، في ظل الواقع الحالي، نوع من الفانتازيا الإعلامية ليس أكثر. وهو من جهة مقابلة، ليس له أي عوائد سياسية أو اقتصادية على الدول التي تسابقت في الإعلان عن التطبيع معه، فحيث لا يملك النظام ما يقدّمه لهذه الدول، فإن تلك الأنظمة الحاكمة أيضاً لا تملك قرارها في تقديم يد العون له في ظل العقوبات الغربية وغياب الإرادة أو الموافقة الأميركية. ما يعني أنه ليس هناك ما يمكن التعويل عليه سياسياً أو اقتصادياً في حركة التطبيع العربية الجديدة مع النظام السوري، حيث لا تمتلك هذه الدول القدرة على دفع النظام إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 في ظل استخدام روسيا وإيران النظام أداة “جكارة” بوجه الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته، فقدت جامعة الدول العربية مصداقيتها أمام الشعوب، ما يخرجها من “إمكانية لعب دور قيادي في الحل السياسي للأزمة السورية” كما يأمل أمين عام الجامعة، أحمد أبو الغيط، وذلك لفقدانها أوراق قوة تمكّنها من التأثير السياسي على طرفي الصراع السوري، النظام من جهة، والشعب المعارض لبقائه من جهة مقابلة.

كان يمكن لجامعة الدول العربية، سابقا، أن تُحدث فارقاً حقيقياً في بداية الثورة، ليس من خلال قرارها تجميد عضوية سورية عام 2011، ولكن بتمسكها بدور عربي فاعل، يقود الحل كما طرحته في مبادرتها الأولى التي قدّمتها في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2011، وكانت المبادرة تحظى بقبول جمهور واسع من الشارع السوري، وحتى من بعض الفاعلين داخل النظام السوري، وكذلك تحظى بدعم دولي كبير، وخصوصا مبادرتها التي طرحتها بعد انتهاء تفويض البعثة العربية إلى سورية نهاية شهر يناير/ كانون الثاني عام 2012، والتي تقضي بتنحّي بشار الأسد وتفويض نائبه (فاروق الشرع) لتولي مهامه.

هكذا في ظل الواقع الحالي، يمكن التعاطي مع التطبيع (سواء مع الأنظمة الديكتاتورية أو مع حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة)، بأنه قرار أنظمة سلطوية، وهو خالٍ من أي قيم سياسية أو أخلاقية، هدفه تأكيد هذه الأنظمة على دعم سياسة تهميش إرادات الشعوب، وتفريغ مضامين ثورات الحرية، والتحرّر، والعدالة. وضمن هذا، يمكن قراءة استمرار محاولات الانفتاح العربي على النظام السوري، في وقتٍ يستمر فيه الأخير بتحدّي إرادة السوريين، وتجاهل معاناتهم، والاستمرار بقمعهم، ورفض السير نحو حل سياسي شامل كما تفرضه قرارات مجلس الأمن، ومنها 2254.

لم تستطع الدول التي سارعت إلى إنهاء قطيعتها مع نظام الأسد تحت شعار “عدم جدواها” تحقيق أهدافها، سواء لجهة الحفاظ على الأمن القومي الذي اتخذته الأردن، كأول أسباب التقارب مع الرئيس السوري، أو لجهة الحدّ من تهريب المخدّرات إليها، وعبرها، إلى الدول العربية، ناهيك عن أن الحديث العام للمطبّعين أو الساعين إلى ذلك، عن استعادة سورية إلى الحضن العربي لنزعها من بين يدي إيران، ذهب أدراج الرياح، حيث زاد النفوذ الإيراني العسكري في العام الأخير على امتداد المساحة التي تقع تحت نفوذ النظام، عبر تمدّد مليشياته جنوباً وشمالاً، كما تعمّق في تغلغله الاقتصادي والتجاري، عبر إضافة 15 اتفاقية وقعتها الحكومة السورية، بحضور الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في دمشق في مايو/ أيار الماضي، ما يمكن اعتباره ردّاً على أي تكهّنات بإمكانية زرع بذور الفرقة بين النظامين.

وعلى صعيد ملف اللاجئين الأكثر سخونة، فإن تحقيق شرط توفير بيئة آمنة لعودتهم في ظل بقاء نظام الأسد الأمني، يعد معادلة مستحيلة التطبيق، حيث تؤكّد المنظمات الحقوقية، ومنها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تعرّض عديد من العائدين، ويقدر عددهم بـ112 مدنيا للاعتقال، بينهم أطفال وسيدات، ومنهم 24 تعرّضوا للإخفاء القسري، خلال العام الحالي (2023)، ما يعني أن أي وعود قدّمها النظام السوري في هذا الملف لا يمكن الركون إليها. هذا إضافة إلى تأكيد عدة جهات دولية استمرار عمليات انتهاك حقوق الإنسان المستمرّة منذ ما قبل بدء الثورة عام 2011. أي أن الأسباب التي دفعت السوريين إلى النزوح داخلياً، أو اللجوء إلى دول الجوار (الأردن ولبنان وتركيا)، أو عبور البحار بحثاً عن مكان آمن، لا تزال قائمة، ولم تقلّل من أسبابها عودة العرب عن قرار مقاطعة النظام السوري.

وعلى النحو الذي انهارت عليه كل أركان التطبيع التي عنونها العرب لأسباب عودته لاحتضان النظام السوري، انهار أيضاً جدار الحماية الذي حاولوا بناءه لمنع تهريب المخدّرات إلى دولهم، وارتفعت معدّلات التهريب التي تتهم المليشيات الطائفية أيضاً الموجودة في سورية، بأنها شريكة جهات داخل النظام السوري في عمليات تجارة المخدّرات وتصنيعها، وكذلك تطوير وسائل تهريبها من البرّ إلى الجو، عبر مسيّرات مبرمجة عن بعد، ما يؤكّد ضلوع جهات رسمية وأمنية فاعلة في هذه الجرائم.

بالمختصر، يمكن القول إن التطبيع مع نظام الأسد بواقعه الحالي يمثل بيان مساندة من رئيس نظام لرئيس نظام، وهو يشبه في مفعوله بيانات الإدانة التي اعتاد العرب عبر جامعة الدول العربية إصدارها في مواجهة جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، فكما كان حاصل تلك البيانات صفرا، فإن التطبيع مع النظام السوري، من دون القدرة على إجباره على تنفيذ القرار 2254، ليس أكثر من صفر يوضع في خانة السلوك الأخلاقي للأنظمة العربية تجاه قضية الحرية لسورية وللسوريين.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا